الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النوع الرابع عشر:

معرفة المنكر من الحديث.

بلغنا عن أبي بكر أحمد بن هارون البرديجي الحافظ: أنه الحديث الذي ينفرد به الرجل، ولا يعرف متنه من غير روايته، لا من الوجه الذي رواه منه ولا من وجه آخر، فأطلق البرديجي ذلك ولم يفصل.

وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث.

والصواب فيه التفصيل الذي بيناه آنفا في شرح الشاذ. وعند هذا نقول: المنكر ينقسم قسمين، على ما ذكرناه في الشاذ، فإنه بمعناه.

مثال الأول - وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات -: رواية مالك، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمر بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" خالف مالك غيره من الثقات في قوله: "عمر بن عثمان" بضم العين.

وذكر مسلم صاحب الصحيح في كتاب "التمييز" أن كل من رواه من أصحاب الزهري قال فيه: "عمرو بن عثمان" يعني بفتح العين.

وذكر أن مالكا كان يشير بيده إلى دار عمر بن عثمان، كأنه علم أنهم يخالفونه. وعمرو وعمر جميعا ولدا عثمان، غير أن هذا الحديث إنما هو عن عمرو - بفتح العين - وحكم مسلم وغيره على مالك بالوهم فيه، والله أعلم.

[ ص: 472 ] [ ص: 473 ]

التالي السابق


[ ص: 472 ] [ ص: 473 ] النوع الرابع عشر:

معرفة المنكر.

64 - قوله: (المنكر ينقسم قسمين، على ما ذكرناه في الشاذ، فإنه بمعناه.

مثال الأول - وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات -: رواية مالك، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمر بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" فخالف مالك غيره من الثقات في قوله: "عمر بن عثمان" بضم العين.

وذكر مسلم صاحب الصحيح في كتاب "التمييز" أن كل من رواه من أصحاب الزهري قال فيه: "عمرو بن عثمان" يعني بفتح العين) إلى آخر كلامه.

حكم المصنف على حديث مالك هذا بأنه منكر، ولم أجد من أطلق عليه اسم النكارة، ولا يلزم من تفرد مالك بقوله في الإسناد "عمر" أن يكون المتن منكرا، فالمتن على كل حال صحيح؛ لأن عمر وعمرا كلاهما ثقة.

[ ص: 474 ] وقد ذكر المصنف مثل ما أشرت إليه في النوع الثامن عشر أن من أمثلته ما وقعت العلة في إسناده من غير قدح في المتن ما رواه الثقة يعلى بن عبيد، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار، عن أبي عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار" الحديث.

[ ص: 475 ] قال: "فهذا إسناد متصل بنقل العدل عن العدل، وهو معلل غير صحيح".

قال: "والمتن على كل حال صحيح، والعلة في قوله: عن عمرو بن دينار، وإنما هو: عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان عنه، فوهم يعلى بن عبيد، وعدل عن عبد الله بن دينار إلى عمرو بن دينار، وكلاهما ثقة" انتهى كلامه.

فجعل الوهم في الإسناد بذكر ثقة آخر لا يخرج ذلك المتن عن كونه صحيحا، فهكذا يجب أن يكون الحكم هنا.

على أنه قد اختلف على مالك - رحمه الله - في قوله: "عمر" و"عمرو" فرواه النسائي في سننه من رواية عبد الله بن المبارك، وزيد بن [ ص: 476 ] الحباب، ومعاوية بن هشام، ثلاثتهم عن مالك، فقالوا في روايتهم: "عمرو بن عثمان" كرواية بقية أصحاب الزهري، لكن قال النسائي بعده: [ ص: 477 ] "والصواب من حديث مالك، عن عمر بن عثمان" قال: "ولا نعلم أحدا تابع مالكا على قوله (عمر بن عثمان)" انتهى.

وقال ابن عبد البر في التمهيد: إن يحيى بن بكير رواه عن مالك على الشك، فقال فيه: عن عمرو بن عثمان، أو عمر بن عثمان، قال: "والثابت عن مالك عمر بن عثمان، كما روى يحيى وتابعه القعنبي وأكثر الرواة" انتهى.

وقد خالف مالكا في ذلك ابن جريج، وسفيان بن عيينة، وهشيم بن بشير، ويونس بن يزيد، ومعمر بن راشد، وابن الهاد، ومحمد بن أبي حفصة [ ص: 478 ] وغيرهم، فقالوا: عمرو، وهو الصواب. والله أعلم.

وقد رواه سفيان الثوري وشعبة، عن عبد الله بن عيسى، عن الزهري، فخالفا فيه الفريقين معا، فأسقطا منه ذكر عمرو بن عثمان، وجعلاه من رواية علي بن حسين، عن أسامة، والصواب رواية الجمهور. والله أعلم.

وإذا كان هذا الحديث لا يصلح مثالا للمنكر فلنذكر مثالا يصلح لذلك، وهو ما رواه أصحاب السنن الأربعة من رواية همام بن يحيى، [ ص: 479 ] عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه" قال أبو داود بعد تخريجه: هذا حديث منكر.

قال: وإنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ خاتما من ورق، ثم ألقاه" قال: والتوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام.

[ ص: 480 ] وقال النسائي أيضا بعد تخريجه: "هذا حديث غير محفوظ".

وأما قول الترمذي بعد تخريجه له: "هذا حديث حسن صحيح غريب" فإنه أجرى حكمه على ظاهر الإسناد. وقول أبي داود والنسائي أولى بالصواب.

إلا أنه قد ورد من غير رواية همام، رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في سننه من رواية يحيى بن المتوكل، عن ابن جريج، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وضعفه البيهقي، فقال: "هذا شاهد ضعيف" وكأن البيهقي ظن أن يحيى بن المتوكل هو أبو عقيل صاحب "بهية" وهو [ ص: 481 ] ضعيف عندهم، وليس هو به، وإنما هو باهلي، يكنى أبا بكر، ذكره ابن حبان في الثقات، ولا يقدح فيه قول ابن معين: "لا أعرفه" فقد عرفه غيره، وروى عنه نحو من عشرين نفسا، إلا أنه اشتهر تفرد همام به، عن ابن جريج. والله أعلم.




الخدمات العلمية