الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأذان من الله ورسوله أي : إعلام وهو فعال بمعنى الإفعال أي إيذان كالأمان والعطاء ، ونقل الطبرسي أن أصله من النداء الذي يسمع بالأذن بمعنى أذنته أوصلته إلى أذنه ، ورفعه كرفع براءة والجملة معطوفة على مثلها .

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم الزجاج أنه عطف على براءة ، وتعقب بأنه لا وجه لذلك فإنه لا يقال : أن عمرا معطوف على زيد في قولك : زيد قائم وعمرو قاعد ، وذكر العلامة الطيبي أن لقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يعطف على " براءة " على أن يكون من عطف الخبر على الخبر كأنه قيل : هذه السورة براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم خاصة وأذان من الله ورسوله ( إلى الناس ) عامة ، نعم الأوجه أن يكون من عطف الجمل لئلا يتخلل بين الخبرين جمل أجنبية ولئلا تفوت المطابقة بين المبتدأ والخبر تذكيرا وتأنيثا ، ونظر فيه بعضهم أيضا بأنهم جوزوا في الدار زيد والحجرة عمرو، وعدوا ذلك من العطف على معمولي عاملين ، وصرحوا بأن نحو: زيد قائم وعمرو يحتمل الأمرين ، وأجيب بأنه أريد عطف أذان وحده على براءة من غير تعرض لعطف الخبر على الخبر كما في نحو أريد أن يضرب زيد عمرا ويهين بكر خالدا، فليس العطف إلا في الفعلين دون معموليهما هذا الذي منعه من منع؛ وإرادة العموم من ( الناس ) هو الذي ذهب إليه أكثر الناس لأن هذا الأذان ليس كالبراءة المختصة بالناكثين بل هو شامل للكفرة وسائر المؤمنين أيضا ، وقال قوم : المراد بهم أهل العهد ، وقوله سبحانه : ( يوم الحج الأكبر ) منصوب بما تعلق به ( إلى الناس ) لا بأذان لأن المصدر الموصوف لا يعمل على المشهور ، والمراد به يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، ولأن الإعلام كان فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخرج البخاري تعليقا ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال : أي يوم هذا؟ قالوا : يوم النحر ، قال : هذا يوم الحج الأكبر ، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن عباس ، وابن جبير ، وابن زيد ، ومجاهد ، وغيرهم ، وقيل : يوم عرفة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم " الحج عرفة " ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا ، وأخرج ابن أبي حاتم عن المسور عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأخرج ابن جرير عن أبي الصهباء أنه سأل عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذا اليوم فقال : هو يوم عرفة ، وعن مجاهد ، وسفيان أنه جميع أيام الحج كما يقال : يوم الجمل ، ويوم صفين ويراد باليوم الحين والزمان، والأول أقوى رواية ودراية ، ووصف بالحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر أو لأن المراد بالحج ما وقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال، فالتفضيل نسبي وغير مخصوص بحج تلك السنة ، وعن الحسن أنه وصف بذلك لأنه اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب ، وقيل : لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين، [ ص: 47 ] فالتفضيل مخصوص بتلك السنة; وأما تسمية الحج الموافق يوم عرفة فيه ليوم الجمعة بالأكبر فلم يذكروها وإن كان ثواب ذلك الحج زيادة على غيره، كما نقله الجلال السيوطي في بعض رسائله ( أن الله بريء من المشركين ) أي : من عهودهم ، وقرأ الحسن ، والأعرج ( إن ) بالكسر لما أن الأذان فيه معنى القول ، وقيل : يقدر القول ، وعلى قراءة الفتح يكون بتقدير حرف جر وهو مطرد في إن وأن ، والجار والمجرور جوز أن يكون خبرا عن أذان وأن يكون متعلقا به وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة له ، وقوله سبحانه : ( ورسوله ) عطف على المستكن في بريء، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف وأن يكون عطفا على محل اسم إن لكن على قراءة الكسر ، لأن المكسورة لما لم تغير المعنى جاز أن تقدر كالعدم، فيعطف على محل ما عملت فيه أي على محل كان له قبل دخولها فإنه كان إذ ذاك مبتدأ ، ووقع في كلامهم محل أن مع اسمها والأمر فيه هين ، ولم يجيزوا ذلك على المشهور مع المفتوحة لأن لها موضعا غير الابتداء ، وأجاز ابن الحاجب هاهنا العطف على المحل في قراءة الجماعة أيضا بناء على ما ذكر من أن المفتوحة على قسمين ما يجوز فيه العطف على المحل وما لا يجوز ، فإن كان بمعنى إن المكسورة كالتي بعد أفعال القلوب نحو علمت أن زيدا قائم وعمرو جاز العطف لأنها لاختصاصها بالدخول على الجمل يكون المعنى معها أن زيدا قائم وعمرو في علمي ، ولذا وجب الكسر في علمت إن زيدا لقائم ، وإن لم تكن كذلك لا يجوز نحو أعجبني أن زيدا كريم وعمرو ويتعين النصب فيه لأنها حينئذ ليست مكسورة ولا في حكمها ، ووجه الجواز بناء على هذا أن الأذان بمعنى العلم فيدخل على الجمل أيضا كعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ يعقوب برواية روح ، وزيد ( ورسوله ) بالنصب وهي قراءة الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمرو ، وعليها فالعطف على اسم إن وهو الظاهر ، وجوز أن تكون الواو بمعنى مع ونصب ( ورسوله ) على أنه مفعول معه أي بريء معه منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الحسن أنه قرأ بالجر على أن الواو للقسم وهو كالقسم بعمره صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله سبحانه : ( لعمرك ) وقيل : يجوز كون الجر على الجوار وليس بشيء ، وهذه القراءة لعمري موهمة جدا وهي في غاية الشذوذ الظاهر أنها لم تصح .

                                                                                                                                                                                                                                      يحكى أن أعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال : إن كان الله تعالى بريئا من رسوله فأنا منه بريء فلببه الرجل إلى عمر رضي الله تعالى عنه فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية ، ونقل أن أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي كرم الله تعالى وجهه فكان ذلك سبب وضع النحو والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفرق الزمخشري بين معنى الجملة الأولى وهذه الجملة بأن تلك إخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، وفي الكشف أن هذا على تقدير رفعهما بالخبرية ظاهر إلا أن في قوله: إخبار بوجوب الإعلام تجوزا، وأراد أن يبين أن المقصود ليس الإخبار بالإعلام بل أعلم سبحانه أنه بريء ليعلموا الناس به ، وعلى التقدير الثاني وجهه أن المعنى في الجملة الأولى البراءة الكائنة من الله تعالى حاصلة منتهية إلى المعاهدين من المشركين فهو إخبار بثبوت البراءة كما تقول في: زيد موجود مثلا : إنه إخبار بثبوت زيد ، وفي الثانية إعلام المخاطبين الكائن من الله تعالى بتلك البراءة ثابت واصل إلى الناس فهو إخبار بثبوت الإعلام الخاص صريحا ووجوب أن يعلم المخاطبون الناس ضمنا ، ولما كان المقصود هو المعنى المضمن ذكر أنها إخبار بوجوب الإعلام ، وزعم بعضهم لدفع التكرار أن البراءة الأولى لنقض العهد والبراءة الثانية لقطع الموالاة والإحسان [ ص: 48 ] وليس بذلك ( فإن تبتم ) من الكفر والغدر بنقض العهد ( فهو ) أي : التوب ( خير لكم ) في الدارين، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التهديد والتشديد ، والفاء الأولى لترتيب مقدم الشرطية على الأذان المذيل بالوعيد الشديد المؤذن بلين عريكتهم وانكسار شدة شكيمتهم ( وإن توليتم ) عن التوبة أو ثبتم على التولي عن الإسلام والوفاء ( فاعلموا أنكم غير معجزي الله ) غير سابقيه سبحانه ولا فائتيه وبشر الذين كفروا بعذاب أليم أي في الآخرة على ما هو الظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا قيد بعضهم غير معجزي الله بقوله في الدنيا ، والتعبير بالبشارة للتهكم ، وصرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قيل : لأن البشارة إنما تليق بمن يقف على الأسرار الإلهية ، وقد يقال : لا يبعد كون الخطاب لكل من له حظ فيه، وفيه من المبالغة ما لا يخفى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية