الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 713 ]

                                                          ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون

                                                          * * *

                                                          ابتدأ الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة ببيان الروابط التي توثق العلاقات الفاضلة في المدينة الإسلامية ، التي هي المقصد الأول من هذا الشرع الحكيم ، فقد تضافرت الأخبار والآثار ، وجاءت آيات الله البينات المثبتة أن شرع الله سبحانه وتعالى لخير الناس في الحال والمآل ، وإقامة مدينة فاضلة في الدنيا ، يكون الثواب لمن شاد بنيانها ، في الآخرة ، وكل عبادات هذا الدين تتجه نحو هذه الغاية ، وتستهدف هذا الهدف ; ولقد قال سبحانه في وصف شرعه وكتابه : يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون

                                                          وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين بعض الأمور التي تحل عرى الجماعة ، وتوقع بينهم العداوة والبغضاء ، وعلاج هذه الأمور ، والطب لها بدواء ناجع يشفي من سقامها ، فذكر ما في الخمر والميسر من مآثم ، واكتفى في هذا الموضع بذلك بيانا للعاقل الرشيد ، وأشار إلى التنابذ والتدابر إن ضن الغني بالعطاء ، وفقد الفقير الرجاء ، فأوجب الإنفاق ، وأشار إلى المعاول التي تهدم الجماعة الإسلامية ، وتقوض أمنها ، وتكثر شذابها ، وأولئك هم الضعفاء واليتامى ومن لا مأوى لهم ، فإن لم يصلحوا وعودهم أخضر ، كان منهم الشطار واللصوص والهادمون الذين يأتون بنيان الجماعة من قواعده.

                                                          [ ص: 714 ] وبعد أن أشار إلى الأذى والوقاية منه ، والداء ودفعه ، أخذ يبين أسس البناء الاجتماعي الفاضل ، وابتدأ من هذه الأسس بالقاعدة التي يشاد عليها البناء ، والوحدة التي يتكون منها البنيان ، والتي إذا قويت فيها الروابط قوي ، وشد بعضه بعضا ، وتلك القاعدة هي : الأسرة ، فهي وحدة البناء الاجتماعي ، وقاعدة كل بناء فاضل ، وفيها تتربى كل المنازع الاجتماعية الفاضلة .

                                                          ولقد ابتدأ من أحكام الأسرة ونظمها الإسلامية الفاضلة بالانتقاء في ركنيها ، وهما الزوج والقرينة ; فإنه إن كان الاختيار فيهما حسنا كانت العلاقة موثقة بروابط المودة والرحمة والإخلاص ، كما قال تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة

                                                          ولقد ابتدأ ببيان أساس الاختيار وهو التدين ، فقال تعالت كلماته :

                                                          ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن عندما ابتدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوته ، وانبعث في مكة نور هدايته ، كان أكثر المؤمنين من الضعفاء غير ذوي الجاه والنسب والحسب ، والأقلون كانوا كذلك ، وكل المعاندين أو جلهم من أوسط قريش نسبا ، وقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مثل مقالة الكفار الذين سبقوهم لأنبيائهم : وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ولما قويت شوكة الإسلام ، كثر دخول ذوي الأنساب فيه شيئا فشيئا ، وإن كانوا مع ذلك قلة من قريش ، وكان أولئك بمقتضى نسبهم الرفيع يرون في بني أعمامهم من قريش الكفاءة النسبية في الزواج ، وربما كان فيهم بعض الميل لمصاهرتهم ، بل كان من بعضهم فعلا من أبدى رغبة في المصاهرة ، فجاء النهي القرآني عن نكاح المشركات ، حتى يؤمن .

                                                          والنكاح في أصل معناه اللغوي : الضم ، وتداخل أجزاء الشيء بعضها في بعض ، ثم أطلق على العقد الذي يحل علاقة الرجل بالمرأة ، وعلى العلاقة التي تكون بينهما بما يتقاضاه الطبع ، وإطلاقه بمعنى العقد إطلاق معروف قبل [ ص: 715 ] الإسلام ، وقد أقره الإسلام بشروط ، والدليل على أنه بمعنى العقد كان معروفا في الجاهلية قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولدت من نكاح ، ولم أخرج من سفاح " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - في سلسلة نسبه الشريف لم تكن ولادة أي جد من جدوده ، أو جدة من جداته إلا من نكاح صحيح حتى إسماعيل عليه السلام ، وعلى ذلك يكون المراد من قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن النهي عن العقد عليهن .

                                                          والإنكاح : هو التزويج ; فالنكاح الزواج ، والإنكاح مباشرة العقد ، وهو أكثر ما يكون عندما يتولى الشخص الزواج عن الغير ، فمعنى ولا تنكحوا المشركات لا تتزوجوهن ; ومعنى ولا تنكحوا المشركين لا تزوجوهن من نسائكم ، فقد جرى العرف على أن المرأة يتولى زواجها أحد قرابتها ، وقد استنبط الجمهور من هذه الصيغة أن المرأة ليس لها أن تتولى عقد زواجها ، وأن العقد لا ينعقد بعبارة النساء ، وخالف في ذلك أبو حنيفة وانفرد بالمخالفة ; وروي عن أبي يوسف تلميذه أنه يرى رأيه ; وقد قال أبو حنيفة : إن المرأة لها أن تتولى زواج نفسها ، وتنفرد بالعقد ، بشرط أن يكون الزوج كفئا ، فإن كان غير كفء فلا يجوز العقد ، وأن قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركين جرى مجرى الأغلب الشائع ، ولأن ذلك هو الحسن المندوب إليه ، لا اللازم الذي لا يجوز خلافه .

                                                          والمشركون - هم عبدة الأوثان . وأصله من الإشراك ، وأصل كلمة أشركته بمعنى جعلت الشيء بينه وبين غيره شركة ، والشركة كما تكون في الحسيات والأشياء ، تكون في المعاني ; فيقال أشركته في أمري ، وقد قال الله سبحانه وتعالى [ ص: 716 ] حاكيا عن موسى عليها السلام وأشركه في أمري وفي الحديث النبوي : " اللهم أشركنا في دعاء الصالحين " .

                                                          ومن هذا الباب أطلقت كلمة " إشراك " على عبادة غير الله معه ; لأن من فعل ذلك فقد أشرك مع الله غيره في العبادة والتقديس والألوهية ; وألفاظ القرآن الكريم الدالة على ذلك كثيرة جدا ، ولا تكاد تحصى ; ولكثرة استعمال القرآن هذا اللفظ في هذا المعنى كان لكلمة " مشرك " إطلاق خاص فيه ; وهو إطلاقه على من يعبد الأوثان ; فكلمة : مشرك ، ومشركين ، ومشركات ، كلها إذا ذكرت في القرآن انصرفت إلى عبدة الأوثان من غير أية قرينة دالة على ذلك ; لأنها صارت في الإسلام حقيقة عرفية عليهم ; ولا تطلق على اليهود والنصارى ; وإن قال الله سبحانه عن النصارى : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وعن اليهود : وقالت اليهود عزير ابن الله إذ صار لفظ المشركين اسما لجنس معين ; ولذا كان يذكر النصارى واليهود بعنوان أهل الكتاب ، وعبدة الأوثان باسم المشركين ; فقد قال تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة فذكر في هذه الآية الكريمة الجميع بعنوان الكفر ; ولكنه فصل بينهما ، فجعلهما جنسين مختلفين ، وإن ذلك أدى إلى الاختلاف في المعاملة ، والاختلاف في الأحكام ; وكانت العلة في هذا الاختلاف مشتقة من التسمية نفسها ; فأولئك لهم كتاب ، وإن كان محرفا ; والمشركون ليس لهم كتاب ، فلا ضابط يضبطهم ، ولا عاصم يحول بينهم وبين الإيغال المطلق في الشر ، ولا حريجة دينية تقيدهم ، بل هم حائرون بائرون .

                                                          وعلى هذا التحقيق اللغوي يتبين أن قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن لا يدخل في عموم النهي إلا الوثنيات ولا يدخل فيه قط الكتابيات ، لأن الحقيقة العرفية القرآنية لا تدخل اليهود والنصارى في عنوان المشركين ، ولا في عموم الوثنيين ، وإن كانوا مثلثين . ولقد قال بعض المفسرين : إن كلمة المشركات تشمل بمقتضى عمومها الكتابيات ; لأنهن يشركن بالله في العبادة ، ويثلثن ، ولكن جاء بعد ذلك النهي العام إباحة زواج الكتابيات في قوله تعالى : اليوم أحل لكم [ ص: 717 ] الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم . . . فكان في نظر أولئك تخصيصا لعموم النهي ، أو نسخا لبعض هذا العموم ، كما يقول بعض الفقهاء .

                                                          ولكن ذلك التوجيه غير مستقيم عند الدارسين للقرآن الكريم العارفين لأسلوبه ، وتقييد العبارات التي اشتمل عليها ، والتبديل الذي يطرأ في أسلوبه على عمومها ; فما من نص يخص أهل الكتاب وصفوا فيه بالإشراك ، بل ترى كل النصوص الخاصة باليهود والنصارى إما أن يعبر عنهم باليهود والنصارى ، كما في قوله تعالى : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى أو يعبر عنهم بأهل الكتاب ، كما في قوله تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك وقوله تعالى : من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون

                                                          وحتى إنهم في مقام الذم يوصفون بالكفر ولا يوصفون بالشرك ، كما في قوله تعالى : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون

                                                          وبهذا كله يتبين أن التحريم من أول الأمر كان خاصا بالمشركات ، ولم تحرم الكتابيات ; بل جاء النص بإباحة الزواج منهن ; وعلى ذلك تضافرت الأخبار عن الصحابة والتابعين بإباحة زواج الكتابية ، وتحريم زواج المشركة ; وقد قال جمهور المفسرين إنه لا يعرف أن أحدا من الصحابة قد حرم زواج الكتابية ، وقد جاءت الروايات بأن عثمان بن عفان تزوج نصرانية ثم أسلمت وأن طلحة بن عبيد الله ، وحذيفة بن اليمان تزوجا يهوديتين ; ولكن مع ذلك روي عن عمر وعبد الله ابنه رضي الله عنهما أنهما حرما ذلك أو كرهاه ، والثاني هو الأصح ، فإن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان رجلا متوقفا حذرا ، وقد خشي على المسلم من زواج الكتابية ; [ ص: 718 ] أما أبوه النافذ البصيرة القوي الفراسة ، الصادق الحس والحدس ، فقد رأى أن المسلم الذي يتزوج الكتابية لا ترضى به كرائم العقائل منهن ، بل ترضاه من ترضاه لمأرب حسي من مال أو جمال ، أو نسب ، ولا ترضاه ذات الأسرة الكريمة العريقة منهم ; ولذلك ورد أنه استنكر من طلحة وحذيفة ما صنعا ، فقال له حذيفة : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ( لا أزعم أنها حرام ، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن ! ) رضي الله عن أبي حفص الفاروق ! لقد خشي ألا يتزوجوا إلا المومسات منهن ; وإن ذلك الظن الذي ظنه وخشيه نرى كثيرا منه يقع فيمن يتزوج من غير دينه ; إذ لا يجد إلا المنحرفة في نفسها وخلقها وعقلها التي ترضى أن تخرج على أهلها وذويها ، وأهل دينها لتتبع مسلما ، لماله أو جماله أو جاهه ، لا لدينه أو خلقه ; لأنها لو كانت كذلك لارتضت الإسلام دينا .

                                                          وإن المسلمين قد أجمعوا على كراهة تزوج المسلم غير المسلمة ، وإن كان جمهورهم على حل الكتابية اتباعا للنص القرآني الكريم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وكانت الكراهة لما سبق من أنه في الغالب لا يرضى بالمسلم منهن إلا المنحرفات ; ولأن المودة التي تكون بين الزوجين قد تؤثر في دينه فينخلع من أوامره ، وإن لم ينخلع من عقيدته ; وتؤثر قطعا في دين الأطفال ، فيخرجون إلى الحياة ، وقد رضعوا الميل إلى دين أمهم ، فغذتهم به كما غذتهم بلبانها ; وقد رأينا رجالا متعلمين يعدون في عداد المسلمين في الإحصاء ويدخلون الكنيسة ; لأن أمهاتهم عودتهم ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ! ولولا النص الكريم لقلنا إن حالنا ، وانحلال الدين في نفوس الذين يقومون على ذلك توجب التحريم سدا للذريعة ، ومنعا للفساد ; وإن السلف الصالح كان لهم من قوة الدين ، والحرص على مصلحة أولادهم ، وتنشئتهم على الإسلام ، ما يحصنهم وأولادهم ، وما يجعلهم يجذبون أزواجهم إلى دينهم من غير أن يخلعوا هم الربقة .

                                                          النص الكريم الذي نتكلم في معناه في تحريم المشركات فقط كما تبين ، والكتابيات في هذه الآية مسكوت عنهن ، ونص على الإباحة في آية المائدة .

                                                          [ ص: 719 ] وقوله تعالى في الغاية التي ينتهي إليها التحريم حتى يؤمن فيه إشارة إلى توقع إيمان المشركين رجالهم ونسائهم ، وأن الفتح المبين قريب وليس ببعيد ، فأولئك الذين يتعلقون بأنسابهم ، ويرون المصاهرة معهم ، لا يتعجلون أمرا لهم فيه أناة ، فسيأتي اليوم الذي يؤمن هؤلاء جميعا ، وبذلك يزول السبب الذي كان من أجله التحريم ، وهو الإشراك ، وإن في ذلك بشرى للمؤمنين عامة بهذا الفتح ، وبإعلاء كلمة الله ، وبانتهاء القتال بين ذوي الأرحام الواصلة ، وبشرى خاصة للذين يرغبون في الزواج من بنات أعمامهم ، ويحول الشرك دونهم .

                                                          ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم في هذه الجملة السامية بيان فضل التدين والإيمان على الشرك والكفر ، وبيان فضل المؤمن على الكافر ، وبيان فضل كمال النفس على جمال الجسم ، وبيان فضل شرف القلب على شرف النسب ; ومثلها في هذا المعنى قوله تعالى بعد ذلك : ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم فكلتا الجملتين الساميتين تشير إلى فضل الحقيقة الخلقية والدينية على المظهر الجسمي ، والاستعلاء النسبي .

                                                          والأمة : الأنثى من الرقيق ; والسبب في أن زواج المؤمن من أمة مؤمنة لا يروقه منظرها ، خير من زواجه من حرة مشركة يروقه منظرها ، ويثير الإعجاب حسنها ، كما دل على ذلك قوله تعالى : ولو أعجبتكم السبب في ذلك أن الزواج ليس علاقة وقتية ، بل هو علاقة دائمة وليس قضاء وطر عاجل يكون الإعجاب المجرد سببه ، بل الزواج صلة مودة رابطة يلاحظ عند الإقدام عليه عوامل بقائه لا الدوافع المجردة إلى إنشائه . وإذا كانت الأمة المؤمنة التي لا تثير الإعجاب قد اجتمعت فيها صفتان لا تثيران النفس ، بل تمنعان ، وهما الرق ، وعدم رواء المنظر ، ففيها صفة توجد المودة والوئام ، وهي الإيمان . وإذا كانت الحرة المشركة التي تثير الإعجاب بجمالها فيها صفتان تسترعيان الأنظار ، وهما النسب والجمال ، ففيها صفة تقطع العلائق ، وتفسد البيت ، وهي الشرك الذي ليس معه عاصم عن إثم ولا غواية ، ولا اتجاه معه إلى فضيلة ومودة واصلة وخلق كريم .

                                                          إن الزواج اختلاط روحي ، وشركة أدبية ، وتعاون دائم على قطع لأواء هذه الحياة وشدتها ، والبيت الزوجي في هذه الحياة اللاغبة الكادحة كالواحة في وسط [ ص: 720 ] الصحراء ، يأوي الرجل إليها بعد التعب واللغوب ، فلا يصح أن يكون مناط الاختيار هو الجمال ولا النسب فقط ، ولا هما معا من غير أن يكون إيمان وخلق واطمئنان نفس وعلو إدراك وأمانة ، وحسن عشرة ولطف مودة ، والمؤمنة ولو كانت أمة لا تثير الإعجاب بمنظرها فيها تلك الخصال الكريمة ، فهي عالية المدارك ، ولذا هجرت الشرك إلى الإيمان ، وفيها حسن عشرة ومودة وخلق ، واستمساك بالأمانة والفضيلة وبعد عن الخيانة والرذيلة ، وقد كون ذلك كله الإيمان .

                                                          أما المشركة ولو كانت جميلة نسيبة فإنها في غالب أحوالها لا تتوافر فيها عوامل بقاء الحياة الزوجية ، فهي مستعلية بنسبها ، مزهوة بجمالها ، لا عاصم من دين يعصمها عن الغواية ، ولا مانع من خلق يمنعها من الخيانة ، وليست عالية المدارك ، بدليل أنها بقيت على الشرك مع قيام البينات على التوحيد شاهدة معلمة موضحة مبينة ، وكيف يلتقي قلبان قلب يعبد الواحد القهار ، وقلب يعبد الأوثان وليست المفاضلة بينهما في المنفعة التي تعود على العشير فقط ، بل المفاضلة من حيث أثرهما في ثمرة هذا الزواج ، وهما الأولاد ، فالمشركة تغذي طفلها بالأوهام ، والمؤمنة تربيه على الإيمان ، والمشركة تضع في نفسه بذور الفساد والانحلال ، والمؤمنة تغرس في قلبه غرس الفضيلة والاستمساك بالعروة الوثقى ، فالطفل بين المسلم والمشركة ينشأ حائر النفس ، مضطرب الوجدان ، سقيم الضمير ; بينما أولاد المؤمن والمؤمنة ينشأون على خلق قوي ، ووجدان مستقيم ، وقلب سليم .

                                                          ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم وإذا كان زواج المؤمن من المشركة حراما فتزويج المؤمنة من المشرك حرام أيضا ، بل إنه أشد تحريما إذا كان التحريم مراتب ; لأن في الزواج نوع ولاية من الرجل على المرأة ، بدليل أن له حق تأديبها إن خرجت عن جادة الحق من غير تبريح ولا اعتداء ، ولا قصد إلى الإيذاء ; ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن أن يزوج الأولياء نساءهم من مشركين . والإنكاح كما قلنا تزويج الإنسان غيره .

                                                          [ ص: 721 ] وإن الأسباب في تفضيل المؤمن ولو عبدا على المشرك ولو كان يثير الإعجاب بجمال جسمه وقوة بدنه ، وجاهه الدنيوي ، هي التي ذكرناها هناك ، ويزاد عليها أن المشرك بما فيه من عنجهية ورجس الجاهلية ، والطغيان النفسي ، يسيء معاملة زوجه من غير دين مانع ، ولا خلق زاجر ، ولا ضمير لائم ، فمن زوج ذات رحم منه مشركا فقد أسلمها إلى الجحيم ، وألقى بها في فتنة ، تفتن بها في دينها وفي خلقها ، وفي كرامتها وفي إنسانيتها ، وإن ذلك لا يغني عن كونه حرا نسيبا ، فإن تلك المعاني التي تبذل أغلى من الحرية والنسب والمال والنشب ، لأنها معاني الإنسانية السامية ، ولهذا كان عبد مؤمن خيرا من كافر نسيب ولو غير مشرك .

                                                          ويجب أن نشير في هذا المقام إلى أمرين :

                                                          أولهما - أن التعبير بلفظ الإنكاح في جانب تزويج المؤمنة بالمشرك ، استدل به جمهور الفقهاء بأن المرأة لا تباشر عقد زواجها بنفسها ، وأنها لا تنفرد باختيار الزوج ، ولو كانت بالغة عاقلة رشيدة ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل ، وهنا نبين وجه الاستدلال للجمهور ومستنده من السنة : أما وجه الاستدلال بالآية فهو أنه عند النهي عن الزواج من المشركة ، قال : ولا تنكحوا وعند النهي عن الزواج من المشرك قال : ولا تنكحوا والأول العقد للنفس ، والثاني العقد للغير ، فذكر العقد للغير في مقام تزويج الأنثى دليل على أنها لا تتولى إنشاء العقد بنفسها ، ولا يسوغ لها أن تنفرد به دون وليها ، وقد أيدت ذلك أحاديث قد وردت مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا نكاح إلا بولي " ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل " .

                                                          وخالف الجمهور أبو حنيفة ، وفي رواية عن أبي يوسف أنه منعه ، وقد زعم أن كل الأخبار الواردة بمنع الزواج إلا بولي لم تصح نسبتها إلى الرسول ، وروي أن [ ص: 722 ] الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال " الأيم أحق بنفسها من وليها " وإن التعبير بالإنكاح في الآية جرى مجرى العرف الشائع الغالب ، وأن النكاح قد أسند إليها في قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ولأنها تدير أموالها ، وتتولى العقود عليها ، فأولى أن تتولى أمر زواجها ; ولأن الولاية تثبت في الشرع لمصلحة المولى عليه ، ومصلحتها في أن تكون حرة ، ولا ضرر على أوليائها إذا تقيد الزواج بالكفاءة ومهر المثل ، فلا عار يلحقهم حينئذ .

                                                          ومع أن أبا حنيفة يطلق حرية المرأة في الزواج ، فإنه يستحسن أن يتولى زواجها وليها كما هو العرف الجاري بين الناس .

                                                          أما الأمر الثاني الذي يجب أن نشير إليه - فهو أن هذه الآية حرمت نكاح المسلمة بالمشرك ، وليس فيها ما يدل على تحريم المسلمة بالكتابي ; لأن كلمة مشرك لا تعم الكتابي في لغة القرآن الكريم ، والحقيقة العرفية الإسلامية ، والتي أجمع المسلمون عليها تحريم زواج المسلمة بالكتابي ; وسند هذا الإجماع قوله تعالى في سورة الممتحنة : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر فهذه الآية صريحة في أن زواج المسلمة بالكافر لا يحل ، وإن كانت زوجته وأسلمت دونه انتهت وصارت لا تحل له ، ولا يحل لها .

                                                          وكلمة كافر تشمل الكتابي والمشرك ، كما قال تعالى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينـزل عليكم من خير من ربكم

                                                          وعلى هذا النص وعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتمد إجماع الصحابة والتابعين من بعدهم إلى اليوم .

                                                          [ ص: 723 ] أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه وازن سبحانه وتعالى بين الزواج من المؤمنة والزواج من المشركة ، والزواج من المؤمن والزواج من المشرك ، وكانت الموازنة من حيث الخيرية في كل جانب ، فكان خير المشركين والمشركات حسيا ماديا ، والمنفعة فيه عاجلة غير باقية ، وكان الخير في جانب المؤمنين والمؤمنات نفسيا وروحيا والمنفعة فيه باقية غير سريعة الزوال ، وتتناسب مع عقد الزواج وهو عقد الحياة الذي يمتد بامتدادها ، وانتهت الموازنة بأن المؤمنة ولو كانت أمة خير من المشركة ولو كانت نسيبة حسناء ; وبأن المؤمن ولو كان عبدا خير من المشرك ولو كان حسيبا نسيبا ونهدا قويا .

                                                          وفي هذه الجملة السامية يبين سبحانه مغبة السوء في الزواج بالمشركين والمشركات ، فقال سبحانه : أولئك يدعون إلى النار أي أن أولئك المشركين والمشركات إذا كان فيهم ما يستهوي الراغب في الزواج منهم من نسب رفيع ، وجاه عريض ، ومال وفير ، وجمال ومنصب ، فهم بهذه الأوصاف الدنيوية التي تستهوي النفوس الضعيفة إذا كان معها الشرك بالله وعبادة الأوثان ، يدعون إلى الإقدام على أسباب النار في الآخرة والعذاب الأليم فيها ، فإن الاستهواء المادي للنفس الضعيفة ، والخلطة المستمرة بين الزوجين ، والاتصال الدائم بينهما ، كما قال تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن إن هذه الأمور كلها من شأنها أن تسهل قبول المسلم أو المسلمة لما عليه المشرك من عادات جاهلية ، وأخلاق وثنية ; تبتدئ تلك المفاسد بالسريان إلى النفس بالسكوت عنها ، ثم بالرضا عن فاعلها ; ثم بالرضا عن فعلها ، ثم باستحسانها ; وأول الشر استحسانه ، وبذلك تنحل عرى الإسلام في نفس المسلم عروة عروة ، حتى لا يبقى من الإسلام إلا الاسم والرسم ; وهما لا يغنيان عن حقيقته شيئا ! .

                                                          وكلما كانت عوامل الإعجاب أكثر ، كانت عوامل التأثير والدعوة أشد وأقوى ; فإذا كانت مسلمة تحت سلطان رجل مشرك له فضل سطوة وجاه ومال وقوة ونسب وله جمال وهمة وإقدام ، فإن تلك العوامل كلها تؤثر في نفسها شيئا فشيئا [ ص: 724 ] حتى تخرجها من الإسلام خطوة بعد خطوة وتكون خارجة عنه وهي لا تحس ولا تشعر .

                                                          وكذلك إذا كان الرجل المسلم قد تزوج مشركة حسناء لها منصب ومال ونسب ، ولطف مودة وحسن مدخل ، فإنها كلما قويت عوامل التأثير عندها ، ضعف مقدارها من خلق الإسلام عنده ، حتى يستحسن ما تستحسن ; ويستهجن ما تستهجن ; ولا دعوة إلى النار أقوى من هذا !

                                                          وليس المراد بالدعوة القول والنداء إلى ما يدخل النار ; بل المعنى أن المودة والإغراء ولطف المدخل والاستيلاء النفسي ; كل هذا من شأنه أن يؤثر ، فيكون كالدعوة إلى الشرك والنار بالقول ، بل أقوى تأثيرا .

                                                          وقد يقول قائل : هذه الدعوة إلى النار بهذا التأثير قد تكون أيضا في زواج المسلم بالكتابية ، كما هي في زواج المسلم بالمشركة ; فإنها إن كانت ذات جمال ومنصب في قومها ، ولها استهواء خاص ، قد تدعو إلى النار ، كما تدعو المشركة ، وتحل الخلق الديني في نفس المسلم ، كما تحله المشركة ; وكان مقتضى هذا أن يحرم زواج المسلم بغير المسلمة مطلقا كما حرم زواج المسلمة بغير المسلم مطلقا ; وإن لذلك الكلام موضعه ; ولذلك أجمع الفقهاء على كراهة زواج المسلم بالكتابية ; بل لقد زعم بعض العلماء أن زواج المسلم من الكتابية محرم كزواجه من المشركة .

                                                          ولكن الجمهور لا يقطعون بالتحريم أمام النص القاطع بالحل ، ولا يعملون العلة ليهمل النص ; بل يرون أن علة التحريم لا تتوافر في الكتابية توافرها في المشركة ; فإن المشركة لا ترتبط بأي قانون خلقي يعصمها من الزلل ، ويجعل الزوج يربطها به ; أما الكتابية فإن مجموع الفضائل الإنسانية من الصدق والأمانة ، ومنع الخيانة ، وحسن المعاملة وحسن العشرة ، وغيرها من المبادئ الفاضلة لا تزال باقية في تعاليم دينها ; فيمكن الاحتكام إليها ، كما يمكن الاطمئنان إلى أن الزوجة تستمسك بالفضيلة في الجملة إن أحسن الاختيار .

                                                          [ ص: 725 ] وإن القرآن الكريم في جدله مع أهل الكتاب كان يلاحظ إمكان التفاهم معهم على قواعد يمكن حملهم على الإقرار بها ، كما في قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله وقوله تعالى في مجادلتهم : قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم كما أمر الله سبحانه المسلمين عامة بألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالرفق ، كما قال تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنـزل إلينا وأنـزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد فكان من اطراد تلك المعاملة الحسنة المقربة ، غير المبعدة ، أن أباح الإسلام الزواج من الكتابيات .

                                                          بيد أنه يلاحظ في إباحة الزواج من الكتابيات أمران :

                                                          الأمر الأول : أن النص القرآني المبيح خاص بالمحصنات منهن ، إذ قال سبحانه : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والمحصنات في أظهر التفسير هن العفيفات ; فأولئك الذين يعمدون إلى المنحرفات منهن في أخلاقهن وعقولهن ولا يتخيرون ، خارجون عن موضع الإباحة فيما أحسب ; لأن الله أحل المحصنات ، وهم استحلوا المنحرفات ، ووقع ما توقعه عمر رضي الله عنه .

                                                          الأمر الثاني : أن ولي الأمر إذا رأى خطرا على الدولة الإسلامية ، أو على المجتمع الإسلامي ، له أن يمنع الناس من ذلك الزواج بوضع عقوبات لمن يقدم عليه سدا للذريعة ومنعا للشر ; وذلك من باب السياسة الشرعية ، لا من باب تحريم ما أحل الله ; لأن الحل قائم على أصله ، والمنع وارد على الضرر الذي يلحق المسلمين ، إذ في ذلك من الاعتداء على جماعتهم ما فيه ; كما أن أصل الأكل حلال ; ولكن اغتصاب أموال الناس لنأكلها حرام ; للاعتداء فيه ; ولذلك سارت الدولة على منع رجال السلك السياسي من الزواج من الأجنبيات . وقد علمنا أن ضباطا في الجيش [ ص: 726 ] يجلسون في مناصب قد تمكنهم من معرفة سر عدته وعتاده قد تزوج بعضهم من يهوديات ، فحق على الدولة أن تنحيهم من أماكنهم ، خشية على الجيش وقادته ، وأن تسن قانونا يمنع ذلك في المستقبل ! .

                                                          هذه دعوة المشركين والمشركات بالإغراء وبعدوى الأخلاق ، إلى النار ، وهي نقيض نداء الله لعباده ، ولذا قال سبحانه : والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه فالله سبحانه بأوامره السامية ، وشريعته المحكمة ينادي المؤمنين إلى سلوك طريق الجنة بأن يقوموا بالأعمال الصالحة ، ويحصنوا نفوسهم في زواجهم بما يحمي أنفسهم من الشر والفساد ، وبواعثهما ، وما يغري بهما ، ويحموا جماعتهم من أن تكون فيها تلك الأدواء الفتاكة بقيام أسر من أزواج قد انحلت في نفوسهم روابط الفضيلة والأخلاق ، فإن ذلك التحصين الشخصي والاجتماعي هو السبيل إلى جنة الرضوان ، كما أنه السبيل إلى مغفرة الرحمن ; لأن صون النفوس وعفة القلوب ، وسيادة الفضيلة في المجتمع ، كل هذا من شأنه أن يوجه إلى الخير وإلى الكمال ، فتذهب عن النفس أدرانها ، وتستر عيوبها ; وبذلك يغفر الله ذنوبها إذا تابت وأقلعت .

                                                          ولقد قيد سبحانه الدعاء إلى الجنة والمغفرة بقوله سبحانه : بإذنه والإذن يطلق على الإعلام ، كما يطلق على الأمر ، ويطلق على الإرادة مع الرضا والتوفيق والتيسير ، وإن تلك المعاني الثلاثة متحققة في هذه الجملة السامية ; فإن الله سبحانه أعلم الناس بطرق الجنة والمغفرة ، وآذنهم بها ليسلك من يريد السلوك ، وأمرهم أمرا قاطعا بالحق في كل شيء ليطيع من طلب الحق وسلك سبيله .

                                                          وإنه سبحانه موفق من طلب الهداية ميسر له السبيل ، آخذ بيده إلى الحق الذي لا مرية فيه .

                                                          ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون يدعو الله سبحانه وتعالى إلى الجنة والمغفرة ويعلم الناس بالحق ويأمرهم به ، وييسر السبيل إليه ، ولا يكتفي سبحانه [ ص: 727 ] وتعالى بذلك ، بل يقيم البينات والآيات الدالة القاطعة على أن الحق هو ما يدعو إليه ، والمصلحة فيما يأمر به ، والفضيلة والكمال فيما يشرع لهم من شرع ويوضح لهم من مناهج ; فقد اقترن كل حكم بحكمته ، وكل أمر بوجه المصلحة فيه ، وكان ذلك لأجل أن يتذكر الناس دائما ، ويكونوا على علم بوجه الخير في أوامر دينهم ، وأحكام الشرع الذي نزل من عند الله الحكيم العليم ; وهذا معنى قوله تعالى : لعلهم يتذكرون فالرجاء هنا في معنى التعليل ; لأن الرجاء من الله تعالى في موضع التحقيق ; أو نقول : الرجاء على حقيقته ، وهو من العبد لا من الرب ; أي أن الله سبحانه وتعالى شرع ما شرع من شريعة محكمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، وبين بالآيات البينات وجه الخير فيما يشرع ليرجو الناس أن يكونوا في حال تذكر دائم لربهم وشرعه ، وخالقهم وما أنزل لهم من أحكام تصلح دنياهم ، وتقربهم إلى الله زلفى فينالون رضوانه يوم الدين .

                                                          أما بعد : فإن هاتين الآيتين الكريمتين توضحان لكل مؤمن الطريق الذي يتخذه ليختار زوجا يرضاها قرينة له ويقطعا معا صحراء الحياة ، وتكون له السكن والمطمأن ; وتبينان له أنه يجب عليه ألا يسير وراء ما يثير الإعجاب من رواء المنظر ، أو علو النسب ، أو جاه دنيوي ; بل يطلب ذات الدين أولا ; فإنه إن استقامت الأخلاق وتلاءمت النفوس والتقت القلوب ، حسنت العشرة ، وقامت الأسرة على دعائم من الفضيلة والخلق الكريم ، وأنبت الله لهما الذرية الصالحة نباتا حسنا ; وإن لم تستقم الأخلاق ولم يكن الدين ، تقطعت الروابط ، وكاد كل منهما لصاحبه ، أو أفسد الاستهواء قلب الصالح منهما لصاحبه ، فيصير [ . . . ] ، ويرين الله على قلبه ، ولا يكون نبت الذرية إلا نكدا ، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ; فاظفر بذات الدين تربت يداك " والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية