الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( وإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة نظرت ، فإن كان مما لا يمكن حفظ الماء منه كالطحلب وما يجري عليه الماء من الملح والنورة وغيرهما ; جاز الوضوء به ; لأنه لا يمكن صون الماء منه فعفي عنه كما عفي عن النجاسة اليسيرة والعمل القليل في الصلاة ، وإن كان مما يمكن حفظه منه نظرت ، فإن كان ملحا انعقد من الماء لم يمنع الطهارة به ; لأنه كان ماء في الأصل ، فهو كالثلج إذا ذاب فيه ، وإن كان ترابا طرح فيه لم يؤثر ; لأنه يوافق الماء في التطهير ، فهو كما لو طرح فيه ماء آخر فتغير به .

                                      وإن كان شيئا سوى ذلك كالزعفران والتمر والدقيق والملح الجبلي والطحلب إذا أخذ ودق وطرح فيه وغير ذلك مما يستغني عنه الماء لم يجز الوضوء به ; لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بمطهر ، والماء مستغن عنه فلم يجز الوضوء به كماء اللحم والباقلاء ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما قوله - أولا - : إذا تغير بما لا يمكن حفظه منه جاز الوضوء به ، فمجمع عليه ، ووجهه ما ذكره من تعذر الاحتراز ، ولو قال : جازت [ ص: 151 ] الطهارة لكان أعم وأحسن ، ولكن قد علم أنه لا فرق بين الوضوء وغيره من أنواع الطهارة في هذا . وأن ما لا يمنع الوضوء من هذا لا يمنع غيره منها ، وأما قوله : إن كان ملحا انعقد من الماء لم يمنع الطهارة ، ثم ذكر بعده في الملح الجبلي أنه يسلب الطهورية ، فهذا أحد أوجه ثلاثة لأصحابنا الخراسانيين ، وهو أصحها عند جمهورهم ، وبه قطع جمهور العراقيين .

                                      ( والثاني ) : يسلبان ( والثالث ) : لا يسلبان ، وممن ذكر الخلاف في المائي من العراقيين الماوردي والدارمي ، وممن ذكره في الجبلي الفوراني والغزالي والروياني ، ونقل الفوراني : أن اختيار القفال لا يسلبان ، وإنما ذكرت هذا : لأني رأيت بعض الكبار ينكر الخلاف في الجبلي ، وينسب الغزالي إلى التفرد به وكأنه اغتر بقول إمام الحرمين : الجبلي يقطع بأن يسلب ، ومن ظن فيه خلافا فهو غالط .

                                      وأما قوله : وإن كان ترابا طرح فيه قصدا لم يؤثر ، فهذا هو المذهب الصحيح وبه قطع جماهير العراقيين وصححه الخراسانيون ، وذكروا وجها أنه يسلب وحكاه الماوردي من العراقيين قولا .

                                      وأما قوله في التراب : لأنه يوافق الماء في التطهير ، فكذا قاله الجمهور وأنكره عليهم إمام الحرمين ، وقال : هذا من ركيك الكلام وإن ذكره طوائف ، فإن التراب غير مطهر ، وإنما علقت به إباحة بسبب ضرورة ، وهذا الإنكار باطل ، بل الصواب تسميته طهورا ، قال الله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا } وفي رواية " وتربتها طهورا " ، وقد سبق بيان هذا الحديث ، ومذهبنا أن الطهور هو المطهر فثبت : أن التراب مطهر وإن لم يرفع الحدث ، وإطلاق اسم التطهير والطهور على التراب في السنة وكلام الشافعي والأصحاب أكثر من أن يحصر . وأما قوله : والطحلب إذا أخذ ودق وطرح فيه ، فإنما قال ( ودق ) ; لأنه إذا لم يدق فهو مجاور لا مخالط ، وهذا الذي ذكره من أنه إذا دق يسلب ، هو المذهب ، وبه قطع الجمهور .

                                      وحكى الماوردي والروياني عن الشيخ أبي حامد أنه لا يسلب قالا : وهو غلط ، وقال صاحب البيان أبو الخير يحيى بن سالم [ ص: 152 ] وغيره في الطحلب المدقوق وورق الأشجار المدقوق وجهان ، حكاهما أبو علي في الإفصاح والشيخ أبو حامد .

                                      وقال البغوي : الزرنيخ والنورة والحجر المسحوق والطحلب والعشب المدقوق إذا طرح في الماء هل يسلب ؟ فيه وجهان ، الصحيح : نعم لإمكان الاحتراز عنه ، ( والثاني ) : لا ; لأنه معفو عن أصله ، نص عليه الشافعي في رواية حرملة وهذا النص غريب ، والمشهور من النص ما سبق .

                                      وأما قوله : زال عنه إطلاق اسم الماء . فاحتراز مما إذا لم يتغير به لقلته ، وقوله : بمخالطة . احتراز من المجاورة وقوله : ما ليس بمطهر احتراز من التراب ، وقوله : والماء مستغن عنه ، احتراز مما يجري عليه كالنورة ونحوها ، وقوله : كماء اللحم والباقلاء يعني مرقهما ، وإنما قاس عليهما ; لأن أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - يخالفنا في المسألة ويوافق عليهما ، وأما قوله : تغير أحد أوصاف الماء من طعم أو رائحة أو لون ، وجعله أحد الأوصاف سالبا ، فهو المذهب الصحيح المشهور ، الذي قطع به الجمهور في الطرق ، ونص عليه الشافعي - رحمه الله - في البويطي والأم ، كذلك رأيته فيهما .

                                      وحكى المتولي والروياني عن الشافعي أنه قال : لا يسلب إلا تغير الأوصاف الثلاثة وهو نص غريب ، وحكى الرافعي أن صاحب جمع الجوامع حكى قولين ( أحدهما ) وهو المشهور واختيار ابن سريج : أن أحد الأوصاف يسلب ( والثاني ) وهو رواية الربيع : أن اللون وحده يسلب والطعم مع الرائحة يسلب ، فإن انفرد أحدهما فلا ، وهذا أيضا غريب ضعيف ، وأما صفة التغير ، فإن كان تغيرا كثيرا ، سلب قطعا ، وإن كان يسيرا بأن وقع فيه قليل زعفران فاصفر قليلا أو صابون أو دقيق فابيض قليلا بحيث لا يضاف إليه فوجهان ، الصحيح منهما : أنه طهور ، صححه الخراسانيون ، وهو المختار ( والثاني ) : ليس بطهور ، نقله إمام الحرمين وغيره عن العراقيين والقفال ، ووجهه القياس على النجاسة ، فلا فرق فيها بين التغير الكثير واليسير ، ويجاب عن هذا المذهب المختار : بأن باب النجاسة أغلظ ، ( وأما ألفاظ الفصل ) فالطحلب بضم الطاء وضم اللام وفتحها لغتان مشهورتان ، والنورة بضم النون حجارة رخوة فيها خطوط بيض يجري عليها [ ص: 153 ] الماء فتنحل ، وفي الباقلاء لغتان إحداهما : تشديد اللام مع القصر ويكتب بالياء ، والثانية : تخفيف اللام مع المد ويكتب بألف ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) هذا الذي ذكرناه من منع الطهارة بالمتغير ( بمخالطة ما ليس بمطهر ، والماء يستغني عنه ) هو مذهبنا ، ومذهب مالك وداود ، وكذا أحمد في أصح الروايتين .

                                      وقال أبو حنيفة : يجوز بالمتغير بالزعفران وكل طاهر ، سواء قل التغير أو كثر بشرط كونه يجري لا ثخينا إلا مرقة اللحم ومرقة الباقلاء ، ولهذا رد المصنف عليهم بقوله كماء اللحم والباقلاء ، وهذه عادة المصنف يشير إلى إلزام المخالف بما يوافق عليه فتفطن لذلك .

                                      وحكى القاضي حسين في تعليقه قولا للشافعي كمذهب أبي حنيفة ، وهذا غريب جدا وضعيف ، واحتج لأبي حنيفة بالقياس على الطحلب وشبهه ، واحتج أصحابنا بالقياس الذي ذكره المصنف واعتمدوه ، فإن قالوا : إنما لم تجز الطهارة بماء الباقلاء ; لأنه صار أدما ، فالجواب من وجهين ( أحدهما ) : لا تأثير لكونه أدما ; لأن الماء لو طبخ فيه حنظل وغيره لم يجز التطهر به بالاتفاق وإن لم يصر أدما ، فدل أنه لا أثر للأدمية ، وإنما الاعتبار بزوال إطلاق اسم الماء ( والثاني ) : أن هذا المعنى موجود في ماء الزعفران ، فإنه صار صبغا وطيبا ويحرم على المحرم مسه ، ويلزمه به الفدية .

                                      وأما قياسهم على الطحلب فضعيف ; لأن الطحلب تدعو الحاجة إليه ولا يمكن الاحتراز عنه بخلاف ما نحن فيه والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا - صاحب الحاوي وغيره - : سواء في مخالطة الطاهر للماء كان الماء قلتين أو أكثر ، والحكم في كل ذاك واحد على ما سبق .

                                      ( فرع ) قال إمام الحرمين : إن اعترض متكلف من أهل الكلام على الفقهاء في فرقهم بين المجاورة والمخالطة فزعم : أن الزعفران ملاقاته أيضا مجاورة ، فإن تداخل الأجرام محال قلنا له : مدارك الأحكام التكليفية لا تؤخذ من هذه المآخذ ، بل تؤخذ مما يتناوله أفهام الناس ، لا سيما فيما بني الأمر فيه على معنى ، ولا شك أن أرباب اللسان لغة وشرعا قسموا التغير إلى [ ص: 154 ] مجاورة ومخالطة ، وإن كان ما يسمى مخالطة عند الإطلاق مجاورة في الحقيقة ، فالنظر إلى تصرف اللسان .



                                      ( فرع ) حلف لا يشرب ماء فشرب ماء متغيرا بزعفران ونحوه لم يحنث ، وإن وكل من يشتري له ماء فاشتراه لم يقع الشراء للموكل ; لأن الاسم لا يقع عليه عند الإطلاق ، ذكره صاحب البيان




                                      الخدمات العلمية