الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم إن العلو المطلوب في رواية الحديث على أقسام خمسة‏ :

أولها‏ : القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناد نظيف غير ضعيف ، وذلك من أجل أنواع العلو‏ ، وقد روينا عن ‏محمد بن أسلم الطوسي‏ [ ص: 257 ] الزاهد العالم رضي الله عنه أنه قال‏ : " قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله عز وجل " . ‏

وهذا كما قال ; لأن قرب الإسناد قرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والقرب إليه قرب إلى الله عز وجل . ‏

الثاني‏ : وهو الذي ذكره الحاكم ‏أبو عبد الله الحافظ‏ ‏‏ ، القرب من إمام من أئمة الحديث ، وإن كثر العدد من ذلك الإمام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا وجد ذلك في إسناد وصف بالعلو ، نظرا إلى قربه من ذلك الإمام وإن لم يكن عاليا بالنسبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وكلام الحاكم يوهم أن القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعد من العلو المطلوب أصلا‏ . ‏

وهذا غلط من قائله ; لأن القرب منه - صلى الله عليه وسلم - بإسناد نظيف غير ضعيف أولى بذلك‏ . ‏

ولا ينازع في هذا من له مسكة من معرفة ، وكأن الحاكم أراد بكلامه ذلك إثبات العلو للإسناد بقربه من إمام ، وإن لم يكن قريبا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والإنكار على من يراعي في [ ص: 258 ] ذلك مجرد قرب الإسناد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان إسنادا ضعيفا ، ولهذا مثل ذلك بحديث ‏أبي هدبة‏ ، و‏دينار‏ ، و‏‏الأشج‏ ، وأشباههم ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

الثالث‏ : العلو بالنسبة إلى رواية الصحيحين ، أو أحدهما ، أو غيرهما من الكتب المعروفة المعتمدة ، وذلك ما اشتهر آخرا من الموافقات ، والأبدال ، والمساواة ، والمصافحة‏ ، وقد كثر اعتناء المحدثين المتأخرين بهذا النوع‏ ، وممن وجدت هذا النوع في كلامه ‏أبو بكر الخطيب الحافظ‏ وبعض شيوخه ، و‏أبو نصر بن ماكولا‏ ، و‏أبو عبد الله الحميدي ، وغيرهم من طبقتهم ، وممن جاء بعدهم‏‏ ، ( والله أعلم‏‏‏ ) .

أما الموافقة‏ : فهي أن يقع لك الحديث عن شيخ مسلم فيه - مثلا - عاليا ، بعدد أقل من العدد الذي يقع لك به ذلك الحديث عن ذلك الشيخ إذا رويته عن مسلم عنه‏ . ‏

وأما البدل‏ : فمثل أن يقع لك هذا العلو عن شيخ غير شيخ مسلم ، [ ص: 259 ] هو مثل شيخ مسلم في ذلك الحديث‏ . ‏

وقد يرد البدل إلى الموافقة ، فيقال فيما ذكرناه‏ إنه موافقة عالية في شيخ شيخ مسلم ، ولو لم يكن ذلك عاليا فهو أيضا موافقة ، وبدل ، لكن لا يطلق عليه اسم الموافقة ، والبدل لعدم الالتفات إليه‏ . ‏

وأما المساواة : فهي - في أعصارنا - أن يقل العدد في إسنادك لا إلى شيخ مسلم ، وأمثاله ، ولا إلى شيخ شيخه ، بل إلى من هو أبعد من ذلك كالصحابي ، أو من قاربه ، وربما كان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث يقع بينك وبين الصحابي - مثلا - من العدد مثل ما وقع من العدد بين مسلم ، وبين ذلك الصحابي ، فتكون بذلك مساويا لمسلم مثلا في قرب الإسناد وعدد رجاله‏ . ‏

وأما المصافحة‏ : فهي أن تقع هذه المساواة التي وصفناها لشيخك لا لك ، فيقع ذلك لك مصافحة ، إذ تكون كأنك لقيت مسلما في ذلك الحديث وصافحته به لكونك قد لقيت شيخك المساوي لمسلم‏ . ‏

فإن كانت المساواة لشيخ شيخك كانت المصافحة لشيخك ، فتقول‏ : كأن شيخي سمع مسلما وصافحه‏ . ‏

وإن كانت المساواة لشيخ شيخ شيخك ، فالمصافحة لشيخ شيخك ، فتقول فيها‏ : كأن شيخ شيخي سمع مسلما ، وصافحه‏ . ‏ ولك أن لا تذكر لك في ذلك نسبة ، بل تقول‏ : كأن فلانا سمعه من مسلم ، من غير أن تقول فيه‏ ( ‏شيخي‏ ) ، أو ( ‏شيخ شيخي‏ ) ‏‏ . ‏

ثم لا يخفى على المتأمل‏ : أن في المساواة ، والمصافحة الواقعتين لك [ ص: 260 ] لا يلتقي إسنادك ، وإسناد مسلم - أو نحوه - إلا بعيدا عن شيخ مسلم ، فيلتقيان في الصحابي ، أو قريبا منه‏ ، فإن كانت المصافحة التي تذكرها ليست لك ، بل لمن فوقك من رجال إسنادك ، أمكن التقاء الإسنادين فيها في شيخ مسلم ، أو أشباهه ، وداخلت المصافحة حينئذ الموافقة ، فإن معنى الموافقة راجع إلى مساواة ومصافحة مخصوصة ، إذ حاصلها‏ : أن بعض من تقدم من رواة إسنادك العالي ساوى أو صافح مسلما ، أو البخاري ، لكونه سمع ممن سمع من شيخهما ، مع تأخر طبقته عن طبقتهما‏ . ‏

ويوجد في كثير من العوالي المخرجة لمن تكلم أولا في هذا النوع ، وطبقتهم المصافحات مع الموافقات ، والأبدال لما ذكرناه‏ . ‏

ثم اعلم‏ أن هذا النوع من العلو علو تابع لنزول ، إذ لولا نزول ذلك الإمام في إسناده لم تعل أنت في إسنادك‏ . ‏

وكنت قد قرأت بمرو على شيخنا المكثر ‏أبي المظفر عبد الرحيم بن الحافظ‏ المصنف ‏أبي سعد السمعاني‏ رحمهما الله ، في أربعي‏ ‏أبي البركات الفراوي‏ حديثا ادعى فيه أنه كأنه سمعه هو أو شيخه من ‏البخاري‏ ، فقال الشيخ ‏أبو المظفر : " ليس لك بعال ، ولكنه ‏للبخاري‏ نازل‏ " . ‏ وهذا حسن لطيف ، يخدش وجه هذا النوع من العلو ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

[ ص: 261 ] الرابع‏ : من أنواع العلو : العلو المستفاد من تقدم وفاة الراوي‏ : مثاله ‏ما أرويه عن شيخ ، أخبرني به عن واحد ، عن البيهقي الحافظ ، عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ‏ أعلى من روايتي لذلك ‏عن شيخ ، أخبرني به عن واحد ، عن أبي بكر بن خلف ، عن الحاكم‏ ، وإن تساوى الإسنادان في العدد ، لتقدم وفاة البيهقي على وفاة ابن خلف ; لأن‏ ‏البيهقي‏ مات سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ، ومات ‏ابن خلف‏ سنة سبع وثمانين وأربعمائة‏ . ‏

روينا عن ‏أبي يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي‏ الحافظ رحمه الله ، قال‏ : " قد يكون الإسناد يعلو على غيره بتقدم موت راويه ، وإن كانا متساويين في العدد‏ " . ‏ ومثل ذلك من حديث نفسه بمثل ما ذكرناه‏ . ‏

ثم إن هذا كلام في العلو المنبني على تقدم الوفاة ، المستفاد من نسبة شيخ إلى شيخ ، وقياس راو براو‏ . ‏

أما العلو المستفاد من مجرد تقدم وفاة شيخك من غير نظر إلى قياسه براو آخر ، فقد حده بعض أهل هذا الشأن بخمسين سنة . ‏ [ ص: 262 ] وذلك ما رويناه عن أبي علي‏ الحافظ النيسابوري قال‏ : سمعت ‏أحمد بن عمير الدمشقي‏ - وكان من أركان الحديث - يقول‏ : إسناد خمسين سنة من موت الشيخ إسناد علو‏ ، وفيما نروي عن ‏أبي عبد الله بن منده الحافظ‏ ، قال‏ : " إذا مر على الإسناد ثلاثون سنة فهو عال‏ " . ‏ وهذا أوسع من الأول ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

الخامس‏ : العلو المستفاد من تقدم السماع‏ . ‏

أنبئنا عن محمد بن ناصر الحافظ ، عن محمد بن طاهر الحافظ ، قال‏ : " من العلو تقدم السماع‏ " . ‏

قلت‏ : وكثير من هذا يدخل في النوع المذكور قبله ، وفيه ما لا يدخل في ذلك ، بل يمتاز عنه‏ . ‏ مثل أن يسمع شخصان من شيخ واحد ، وسماع أحدهما من ستين سنة مثلا ، وسماع الآخر من أربعين سنة . ‏ فإذا تساوى السند إليهما في العدد‏ ، فالإسناد إلى الأول الذي تقدم سماعه أعلى‏ . ‏

فهذه أنواع العلو على الاستقصاء والإيضاح الشافي ، ولله سبحانه وتعالى الحمد كله‏ . ‏

[ ص: 263 ] وأما ما رويناه عن ‏الحافظ أبي الطاهر السلفي‏ - رحمه الله - من قوله في أبيات له‏ :


بل علو الحديث بين أولي الحفـ ـظ والإتقان صحة الإسناد



وما رويناه عن‏ ‏الوزير نظام الملك من قوله : " ‏عندي أن الحديث العالي ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن بلغت رواته مائة‏ " ، فهذا ونحوه ليس من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث ، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

التالي السابق


الخدمات العلمية