الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين

القائل هو إبليس، أقسم بعزة الله تعالى، قال قتادة : علم عدو الله أنه ليست له عزة فأقسم بعزة الله أنه يغوي ذرية آدم أجمع، إلا من أخلصه الله للإيمان به.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا استثناء الأقل عن الأكثر، على باب الاستثناء; لأن المؤمنين أقل من الكفرة بكثير، بدليل حديث بعث النار وغيره، وجوز قوم أن يستثنى الكثير من الجملة ويترك الأقل [ ص: 367 ] على الحكم الأول، واحتجوا بقوله: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وقال من ناقضهم: العباد هنا يعم البشر والملائكة، فبقي الاستثناء على بابه في أن الأقل هو المستثنى. وفتح اللام وكسرها في "المخلصين" تقدم.

والقائل: فالحق والحق أقول هو الله تعالى، قال مجاهد : المعنى: فالحق أنا. وقرأ الجمهور بالنصب في الاثنين، فأما الثاني فمنصوب بـ"أقول"، وأما الأول فيحتمل الإغراء، أو القسم على إسقاط حرف القسم، كأنه قال: "فو الحق"، ثم حذف الحرف، كما تقول: "الله لأفعلن"، تريد: والله، ويقوي ذلك قوله: "لأملأن"، وقد قال سيبويه : قلت للخليل : ما معنى "لأفعلن" إذا جاءت مبتدأ؟ فقال: هي بتقدير قسم منوي. وقالت فرقة: الأول منصوب بفعل مضمر.

وقال ابن عباس ، ومجاهد برفع الاثنين، فأما الأول فبالابتداء، وخبره في قوله: "لأملأن"; لأن المعنى: أن أملأ، وأما الثاني فيرفع على الابتداء أيضا. وقرأ عاصم ، وحمزة بالرفع في الأول، وهي قراءة مجاهد ، والأعمش ، وأبان بن تغلب ، وإعراب هذه بين. وقرأ الحسن: "فالحق والحق" بخفض القاف فيهما على القسم، وذكرها أبو عمرو الداني .

ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأنه ليس بسائل أجر ولا مال، وأنه ليس ممن [ ص: 368 ] يتكلف ما لم يجعل إليه، ولا يتحلى بغير ما هو فيه. وقال الحسين بن الفضل : هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، وقال الزبير بن العوام رضي الله عنه: نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للذين لا يدعون ولا يتكلفون، ألا إني بريء من التكلف، وصالحو أمتي".

وقوله تعالى: إن هو إلا ذكر للعالمين يريد: به القرآن، و إلا ذكر أي: تذكرة. ثم توعدهم تعالى بقوله: ولتعلمن نبأه بعد حين ، وهذا على حذف تقديره: ولتعلمن صدق نبئه بعد حين من توعدكم.

واختلف الناس في معنى قوله تعالى: بعد حين إلى أي وقت أشار؟ لأن "الحين" في اللغة يقع على القليل والكثير من الوقت، فقال ابن زيد : أشار إلى يوم القيامة، وقال قتادة والحسن : في اللغة أشار إلى الآجال التي لهم; لأن كل واحد منهم يعرف الحقائق بعد موته، وقال السدي : أشار إلى يوم بدر; لأنه يوم عرف الكفار فيه صدق وعيد القرآن لهم.

كمل تفسير سورة (ص) والحمد لله رب العالمين

التالي السابق


الخدمات العلمية