الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون ) .

[ ص: 400 ] لما ذكر - تعالى - ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه ، و ( سبع طرائق ) السماوات ، قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض ، طارق النعل جعله على نعل ، وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر ; قاله الخليل والفراء والزجاج كقوله : ( طباقا ) . وقيل : لأنها طرائق الملائكة في العروج . وقيل : لأنها طرائق في الكواكب في مسيرها . وقيل : لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى . قال ابن عطية : ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء .

( وما كنا عن الخلق غافلين ) نفى تعالى عنه الغفلة عن خلقه ، وهو ما خلقه تعالى فهو حافظ السماوات من السقوط وحافظ عباده بما يصلحهم ، أي هم بمرأى منا ندبرهم كما نشاء ( بقدر ) بتقدير منا ( معلوم ) لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم . ( فأسكناه في الأرض ) أي جعلنا مقره في الأرض . وعن ابن عباس : أنزل الله من الجنة خمسة أنهار : جيحون ، وسيحون ، ودجلة ، والفرات ، والنيل . وفي قوله ( فأسكناه في الأرض ) دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض ، فمنه الأنهار والعيون والآبار ، وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على إذهابه . قال الزمخشري : ( على ذهاب به ) من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه ، انتهى . و ( ذهاب ) مصدر ذهب ، والباء في ( به ) للتعدية مرادفة للهمزة كقوله : ( لذهب بسمعهم ) أي لأذهب سمعهم . وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم ، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله : ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ) ، وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء . قال ابن عطية : ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلا فالأجاج ثابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط ، وأيضا فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السماوات والأرض ، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ، انتهى . وقيل : ما نزل من السماء أصله من البحر ، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد ، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ، ولو كان باقيا على حاله ما انتفع به من ملوحته .

ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال : ( فأنشأنا لكم به جنات ) وخص هذه الأنواع الثلاثة من : النخل والعنب ، والزيتون ; لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع ، ووصف النخل والعنب بقوله : ( لكم فيها ) إلى آخره ; لأن ثمرهما جامع بين أمرين أنه فاكهة يتفكه بها ، وطعام يؤكل رطبا ويابسا رطبا وعنبا وتمرا وزبيبا ، والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا ، ويحتمل أن يكون قوله : ( ومنها تأكلون ) من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن صنعة يغتلها ، ومن تجارة يتربح بها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه . كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترتزقون وتتعيشون ; قاله الزمخشري . وقال الطبري : وذكر النخيل والأعناب ; لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما ، والضمير في ( ولكم فيها ) عائد على الجنات ، وهو أعم لسائر الثمرات ، ويجوز أن يعود على النخيل والأعناب .

وعطف ( وشجرة ) على " جنات " ، وهي شجرة الزيتون وهي كثيرة بالشام . وقال الجمهور ( سيناء ) اسم الجبل ، كما تقول : جبل أحد من إضافة العام إلى الخاص . وقال مجاهد : معنى ( سيناء ) مبارك . وقال قتادة : معناه الحسن ، والقولان عن ابن عباس . وقيل الحسن بالحبشة . وقيل : بالنبطية . وقال معمر عن فرقة : معناه ذو شجر . وقيل : ( سيناء ) اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده ; قاله مجاهد أيضا . وقرأ الحرميان وأبو عمرو والحسن بكسر السين ، وهي لغة [ ص: 401 ] لبني كنانة . وقرأ عمر بن الخطاب وباقي السبعة بالفتح ، وهي لغة سائر العرب . وقرأ سينى مقصورا وبفتح السين ، والأصح أن ( سيناء ) اسم بقعة وأنه ليس مشتقا من السناء ; لاختلاف المادتين ، على تقدير أن يكون سيناء عربي الوضع ; لأن نون السناء عين الكلمة وعين سيناء ياء .

وقرأ الجمهور : ( تنبت ) بفتح التاء وضم الباء ، والباء في ( بالدهن ) على هذا باء الحال ، أي ( تنبت ) مصحوبة ( بالدهن ) أي ومعها الدهن . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، و سلام ، و سهل ، و رويس ، و الجحدري ، بضم التاء وكسر الباء ، فقيل : ( بالدهن ) مفعول ، والباء زائدة ، التقدير تنبت الدهن . وقيل : المفعول محذوف أي ( تنبت ) جناها ، و ( بالدهن ) في موضع الحال من المفعول المحذوف أي تنبت جناها ومعه الدهن . وقيل : أنبت لازم كنبت فتكون الباء للحال ، وكان الأصمعي ينكر ذلك ويتهم من روى في بيت زهير :


قطينا بها حتى إذا أنبت البقل



بلفظ أنبت . وقرأ الحسن ، والزهري ، وابن هرمز ، بضم التاء وفتح الباء مبنيا للمفعول ، و ( بالدهن ) حال . وقرأ زر بن حبيش بضم التاء وكسر الباء الدهن ، بالنصب . وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان ، بالألف ، وما رووا من قراءة عبد الله " يخرج الدهن " ، وقراءة أبي " تثمر بالدهن " محمول على التفسير ; لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ; ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور ، والصبغ الغمس والائتدام .

وقال مقاتل : الصبغ الزيتون ، والدهن الزيت ، جعل تعالى في هذه الشجرة تأدما ودهنا . وقال الكرماني : القياس أن يكون الصبغ غير الدهن ; لأن المعطوف غير المعطوف عليه . وقرأ الأعمش وصبغا بالنصب . وقرأ عامر بن عبد الله وصباغ بالألف ، فالنصب عطف على موضع ( بالدهن ) كان في موضع الحال أو في موضع المفعول ، والصباغ كالدبغ والدباغ ، وفي كتاب ابن عطية . وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعا ( للآكلين ) كأنه يريد تفسير الصبغ .

ذكر تعالى شرف مقر هذه الشجرة ، وهو الجبل الذي كلم الله فيه نجيه موسى - عليه السلام - ثم ذكر ما فيها من الدهن والصبغ ووصفها بالبركة في قوله : ( من شجرة مباركة زيتونة ) ، قيل : وهي أول شجرة نبتت بعد الطوفان ( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ) تقدم تفسير نظير هذه الجملة في النحل . ( ولكم فيها منافع ) من الحمل والركوب والحرث والانتفاع بجلودها وأوبارها ، ونبه على غزارة فوائدها وألزامها وهو الشرب والأكل ، وأدرج باقي المنافع في قوله : ( ولكم فيها منافع كثيرة ) ، ثم ذكر ما تكاد تختص به بعض الأنعام ، وهو الحمل عليها وقرنها بالفلك ; لأنها سفائن البر كما أن ( الفلك ) سفائن البحر . قال ذو الرمة :


سفينة بر تحت خدي زمامها



يريد صيدح ناقته .



التالي السابق


الخدمات العلمية