الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1675 [ 939 ] أبنا الربيع، أبنا الشافعي، أبنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر فتفرقا لحاجتهما، فقتل عبد الله بن سهل فانطلق هو وعبد الرحمن أخو المقتول وحويصة بن مسعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له قتل عبد الله بن سهل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟

فقالوا: يا رسول الله لم نشهد ولم نحضر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فتبرئكم يهود بخمسين يمينا قالوا: يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار"، فزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقله من عنده.


قال بشير بن يسار: قال سهل: لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض في مربد لنا.

[ ص: 212 ]

التالي السابق


[ ص: 212 ] الشرح

اختلفت الرواة في الحديث الأول عن ابن جريج:

فروى ابن وهب وعبد الله بن عطاء عنه عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" وأخرجه مسلم في الصحيح هكذا عن أبي الطاهر عن ابن وهب، وروى نحوا منه عبد الله بن داود عن ابن جريج، وأخرجه البخاري من هذا الطريق عن نصر بن علي عن عبد الله بن داود.

ورواه عبد الله بن إدريس والوليد بن مسلم عن ابن جريج وقالا: ... "ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر"، وكذلك رواه عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة نافع بن عمر الجمحي، واختلف الرواة عنه فلم يتعرض أكثرهم للبينة، وكذلك رواه البخاري ومسلم في الكتابين، ورواه الفريابي عن سفيان الثوري عن نافع، وقال: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" .

وإذا تأملت هذه الروايات وجدتها متفقة على ذكر اليمين ومختلفة في ذكر البينة، وقضيته أن يكون ذكر اليمين أولى بالجزم من ذكر البينة على عكس ما في الكتاب، والله أعلم.

وحديث بشير عن سهل بن أبي حثمة قد سبق في الكتاب على [ ص: 213 ] اختصار من الشافعي لغرض قد بيناه، وتمام الحديث ما أورده ها هنا ، وقد أخرجه مسلم من رواية عبد الوهاب، وأيضا رواه عن قتيبة عن الليث وعن عبيد الله القواريري عن بشر بن المفضل، بروايتهما عن يحيى بن سعيد، وأخرجه البخاري عن مسدد عن بشر بن المفضل.

وعلى هذه القصة بناء القسامة على أصل الشافعي رضي الله عنه، وصورتها: أن يوجد قتيل لا يعرف قاتله ويدعي الولي قتله على واحد أو جماعة ويقترن بالواقعة ما يشعر بصدق المدعي، ويقال له: اللوث، فيحلف المدعي خمسين يمينا، ويخالف سائر الدعاوي حيث لا يبدأ فيها بيمين المدعي، فللشارع أن يخص كما له أن يعم، وكان اللوث حاصلا في قصة عبد الله بن سهل فإن أهل خيبر كانوا أعداء للأنصار، ومن أظهر أنواع اللوث أن يوجد قتيل في قرية بينه وبين أهلها عداوة.

وساعد مالك وأحمد والشافعي على البداية بيمين المدعي أخذا بالحديث، وقال أبو حنيفة: لا اعتبار باللوث، ولا يبدأ بيمين المدعي، فإذا وجد قتيل في محلة أو قرية وادعى وليه قتله على رجل أو جماعة اختار الإمام -ويقال: الولي- خمسين رجلا من صلحاء تلك البقعة ويحلفون خمسين يمينا أنهم ما قتلوه ولا عرفوا قاتله، فإذا حلفوا وجبت الدية على عاقلة من بنى تلك الخطة، فإن لم يعرف الثاني أو لم تكن له عاقلة أخذت الدية من سكان ذلك الموضع الحالفين وغيرهم في ثلاث سنين، فإن لم يحلفوا حبسوا حتى يحلفوا أو يقروا; وفيما ذكره تحليف غير المدعى عليه والحبس لليمين وتغريم من لم تقم عليه حجة، [ ص: 214 ] وقد حلفوا على أنه لا شيء عليه.

وقال الإمام أبو سليمان الخطابي: في الحديث دليل على أن المدعى عليهم إذا حلفوا برئوا من الدم، وهو قوله: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا".

وعلى أن الحكم بين المسلم والذمي كالحكم بين المسلمين في الاحتساب باليمين، وعلى أن يمين المشرك مسموعة على المسلم، وقال مالك: لا تسمع أيمانهم على المسلمين كشهاداتهم.

قال: وفيه من الفقه: جواز الوكالة في طلب الحدود، وجواز وكالة الحاضر; وذلك لأن ولي الدم هو أخو القتيل عبد الرحمن وحويصة ومحيصة ابنا عمه; وليس هذا الاحتجاج بواضح.

وروى الحديث حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد، وقال: "يقسم خمسون منكم على رجل [منهم] وقال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم". والاعتماد على رواية الجمع الكثير أولى من اتباع رواية الواحد، والوثوق بحفظهم أتم.

وحديث سفيان بن عيينة بالحديث عن يحيى بن سعيد كما تقدم، قال الشافعي: وربما قال: لا أدري أبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأنصار أم باليهود، فيقال له: إن الناس يحدثون أنه بدأ بالأنصار فيقول: فهو ذلك، وربما حدثه ولم يشك فيه.

وحديث ابن عباس "أن اليمين على المدعى عليه" عام، وحديث القسامة خاص، والخاص يقضي على العام، وقد روي من حديث [ ص: 215 ] عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة" .

وقوله: "وتستحقون دم قاتلكم، أو صاحبكم" يشعر ظاهره بتعلق القصاص بالقسامة، وهو قول مالك وأحمد، ويروى ذلك عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الشافعي في القديم والجديد من قوله، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه.

ويروى عن ابن عباس والحسن البصري أنه لا يقاد بالقسامة وإنما تجب بها الدية، وحمل لفظ الدم على الدية; لأنها تؤخذ بسبب الدم فجاز أن تسمى دما، وقد روي في بعض الروايات "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب" .

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم ، وعن مكحول مرسلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقض في القسامة بالقود.

ولما لم يحلف الأنصار ولا رضوا بأيمان اليهود لم يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهدر دم القتيل فوداه من عنده للإصلاح بينهم.

وقوله: "فركضتني منها فريضة" أي: ناقة، سميت بذلك لأنها [ ص: 216 ] مقدرات أو لأنها ألزمت وأوجبت، وهو كما روي: أن في كل أنملة ثلاث فرائض وثلث فريضة .

وقوله: "من مربد لنا" المربد: الموضع الذي تحبس فيه الإبل والغنم، وأيضا الموضع الذي يوضع فيه التمر إذا جد لييبس، والكلمة من الإقامة، يقال: ربد بالمكان وتربد إذا أقام به.




الخدمات العلمية