الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما المتوسطون فهم أهل السنة والجماعة ، فلم يفرطوا تفريط القدرية النفاة ، ولم يفرطوا إفراط الجبرية المحتجين بالقدر على معاصي الله ، وهؤلاء على مذهبين : مذهب الأشعري ومن وافقه من الخلف ، ومذهب سلف الأمة وأئمة السنة ، فمذهب أهل السنة كافة أن جميع أنواع الطاعات ، والمعاصي ، والكفر والفساد - واقعة بقضاء الله وقدره لا خالق سواه ، فأفعال العباد مخلوقة لله - تعالى - خيرها وشرها حسنها وقبيحها ، والعبد غير مجبور على أفعاله ، بل هو قادر عليها ، هذا القدر باتفاق أهل السنة ، ثم أن الأشعري ومن وافقه منهم أثبت للعبد كسبا ، ومعناه أنه قادر على فعله ، وإن كانت قدرته لا تأثير لها في ذلك كما مر ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - : هذا قول الأشعري ومن وافقه من المثبتة للقدر من الفقهاء ، وطوائف أهل السنة من أصحاب مالك ، والشافعي وأحمد ، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى ولا طبائع ، ويقولون : إن الله - تعالى - فعل عندها لا بها ، ويقولون : إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل ، ويقول الأشعري : إن الله فاعل فعل العبد ، وإن عمل العبد ليس فعلا للعبد بل كسبا له . قال شيخ الإسلام : وهذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام ، وينكر تأثير القدرة التي للعبد التي يكون بها الفعل ، ويقول : إنه لا أثر لقدرة العبد أصلا في فعله لكن الأشعري يثبت [ ص: 312 ] للعبد قدرة محدثة واختيارا ، ويقول : إن الفعل كسب للعبد ، لكن يقول : لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور ، وهو مقام دقيق حتى قال بعضهم : إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول ، قال : حتى قال جمهور العقلاء : ثلاثة أشياء لا حقيقة لها : طفرة النظام ، وأحوال أبي هاشم ، وكسب الأشعري . وذلك أنه يلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز ، إذ مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة ، فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته ، وغير ذلك من صفاته ، فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين هذه القدرة وغيرها . ومن هذه الطائفة من يقول : إن قدرة العبد مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله ، كما يقوله القاضي أبو بكر الباقلاني من أئمة متكلمة الأشعرية ومن وافقه ، فإنه أثبت تأثيرا بدون خلق الرب ، فلزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله ، وإن جعل ذلك معلقا بخلق الرب فلا فرق بين الأصل والصفة . قيل : ومذهب الأشعري يقرب في هذه المسألة من مذهب الجبرية الجهمية ، فإنه يحكى عن الجهم بن صفوان وغلاة أتباعه أنهم سلبوا العبد قدرته واختياره ، حتى قال بعضهم : إن حركته حركة الأشجار بالرياح كما تقدم . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن الجهم كان يقول : لا أثر لحركة العبد أصلا في فعله ، وكان يثبت مشيئة الله - تعالى ، وينكر أن يكون له حكمة ورحمة ، وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثرة .

قال : وقد حكي عنه أنه كان يخرج إلى الجذمى ويقول : أرحم الراحمين يفعل هذا ؟ إنكارا لأن يكون له - تعالى - رحمة يتصف بها سبحانه ، زعما منه أنها ليست إلا مشيئة محضة لا اختصاص لها بحكمة ، بل يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح .

ومذهب سلف الأمة وأئمتها وجمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون : إن العبد فاعل لفعله حقيقة ، وإن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية ، ولا ينكرون الأسباب الطبيعية ، بل يقرون بما دل عليه الشرع ، والعقل من أن الله - تعالى - يخلق السحاب بالرياح ، وينزل الماء بالسحاب وينبت النبات بالماء ، ولا يقولون : القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها ، بل يقرون بأن لها أثرا لفظا ومعنى ، لكن يقولون : هذا التأثير هو تأثير الأسباب في [ ص: 313 ] مسبباتها ، والله - تعالى - خالق السبب والمسبب ، ومع أنه خالق السبب ، فلا بد للسبب من سبب آخر يشاركه ، ولا بد له من معارض يمنعه فلا يتم أثره إلا مع خلق الله له ، بأن يخلق الله السبب الآخر ويزيل الموانع ، وقال شيخ الإسلام في موضع آخر : الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي هي من العبد ، بمعنى أنها قائمة به وحاصلة بمشيئته وقدرته ، وهو المتصف بها ، والمتحرك بها ، الذي يعود حكمها عليه ، وهي من الله ، بمعنى أنه خلقها قائمة بالعبد ، وجعلها عملا له وكسبا كما يخلق المسببات بأسبابها ، فهي من الله ، مخلوقة له ، ومن العبد صفة قائمة به واقعة بقدرته وكسبه ، كما إذا قلنا : هذه الثمرة من الشجرة ، وهذا الزرع من الأرض ، بمعنى أنه حدث منها ، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها - لم يكن بينهما تناقض .

قال : فالحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار وإلى أسبابها باعتبار ، كما قال - تعالى - : هذا من عمل الشيطان وقال : وما أنسانيه إلا الشيطان مع قوله : كل من عند الله وأخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويفسقون ويتقون ويصدقون ويكذبون .

وقال في موضع آخر : إن أئمة أهل السنة يقولون : إن الله خالق أفعال العباد ، كما أن الله خالق كل الأشياء بالأسباب ، وأنه - تعالى - خلق للعبد قدرة بها يكون فعله ، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة ، فقولهم في خلق فعل العبد بإرادته وقدرته كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها ، وقد دلت الدلائل اليقينية علي أن كل حادث فالله خالقه وفعل العبد من جملة الحوادث ، وفعل العبد من جملة الممكنات .

قال : وجمهور المسلمين وجمهور طوائفهم على هذا القول الوسط ، الذي ليس هو قول المعتزلة ولا قول جهم بن صفوان وأتباعه الجبرية ، فمن قال : إن شيئا من الحوادث أفعال الملائكة والجن والإنس ، لم يخلقها الله - تعالى ، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف والأدلة العقلية ; ولهذا قال بعض السلف : من قال : إن كلام الآدميين وأفعال العباد غير مخلوقة ، فهو بمنزلة من يقول : إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة .

والحاصل أن مذهب السلف ومحققي أهل السنة أن الله - تعالى - خلق قدرة العبد وإرادته وفعله ، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله ، والله [ ص: 314 ] سبحانه جعله فاعلا له محدثا له ، قال - تعالى - : وما تشاءون إلا أن يشاء الله فأثبت مشيئة العبد وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة الله - تعالى - ، وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد ، وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - : وهذا قول جمهور أهل السنة من جميع الطوائف ، وهو قول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق الإسفراييني وإمام الحرمين وغيرهما ، فيقولون : العبد فاعل لفعله حقيقة ، وله قدرة واختيار ، وقدرته مؤثرة في مقدورها ، كما تؤثر القوى والطبائع والأسباب ، كما دل على ذلك الشرع ، والعقل قال - تعالى - : فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات وقال : فأحيا به الأرض بعد موتها وقال يهدي به كثيرا وهذا كثير في الكتاب ، والسنة ، يخبر - تعالى - أنه يحدث الحوادث بالأسباب ، وكذلك دل الكتاب ، والسنة على إثبات القوى ، والطبائع للحيوان وغيره كما قال - تعالى - : فاتقوا الله ما استطعتم وقال هو أشد منهم قوة وقال في الجمادات : وأخرجت الأرض أثقالها وقال : اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج وقال : تدمر كل شيء بأمر ربها وقال : وأرسلنا الرياح لواقح ، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ، وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقال - تعالى - : كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه وهذا في القرآن كثير جدا . وقال السعد التفتازاني في شرح المقاصد بعد ما نقل الخلاف ملخصا - ما نصه : ثم المشهور فيما بين القوم ، المذكور في كتبهم أن مذهب إمام الحرمين أن فعل العبد واقع بقدرته وإرادته إيجابا ، كما هو رأي الحكماء ، مع قول الإمام في الإرشاد : اتفق أئمة السلف قبل ظهور البدع ، والأهواء على أن الخالق هو الله ولا خالق سواه ، وأن الحوادث كلها حدثت بقدرة الله من غير فرق بين ما تعلق قدرة العبد به وبين ما لا يتعلق .

قال العلامة إبراهيم الكوراني في شرح منظومة شيخه الشيخ محمد المقدسي القشاشي ما نصه : مذهب الشيخ إمام الحرمين الذي تفرد به فيما قيل عن الأصحاب - يعني الأشعرية - من أن أصل فعل العبد واقع منه بتأثير قدرته بإذن الله ، قال : [ ص: 315 ] وهو مذكور في الإرشاد وهو آخر قوليه كما نقله عنه البقي ، فلا يقدح مخالفة ما في الإرشاد وبقية كتبه التي وصلت إلى التفتازاني وغيره لما هو المنقول عنه في غير الإرشاد وبقية كتبه في هذا الفن المرجوع عنها في هذه المسألة .

قال الكوراني : وهذا الكتاب الذي ذكر فيه آخر قوليه هو كتابه المترجم بالنظامية فيما وقفت على كلامه منقولا عنه بلفظه في كتاب ( شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ) للعلامة شمس الدين بن القيم في الباب السابع عشر منه ، ولفظه : اضطربت آراء أتباع الأشعري في الكسب اضطرابا عظيما ، واختلفت عباراتهم فيه اختلافا كثيرا ، وقد ذكر ذلك كله أبو القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري في شرح الإرشاد ، ثم ساق عن تلميذ إمام الحرمين شارح الإرشاد ، هذا الأنصاري - كلاما فيه أن إمام الحرمين ذكر لنفسه مذهبا ذكره في الكتاب المترجم بالنظامية ، وانفرد به عن الأصحاب ، ثم قال صاحب كتاب شفاء العليل في آخر كلام شارح كتاب الإرشاد المذكور : قلت : الذي قاله الإمام في النظامية أقرب إلى الحق مما قاله الأشعري وابن الباقلاني ومن تابعهما ، ونحن نذكر كلامه بلفظه ، قال - يعني إمام الحرمين : قد تقرر عند كل حاظ بعقله ، مترق عن مراتب التقليد في قواعد التوحيد أن الرب - سبحانه وتعالى - مطالب عباده بأعمالهم وداعيهم إليها ومثيبهم ومعاقبهم عليها ، وتبين بالنصوص التي لا تتعرض بالتأويلات أنه أقدرهم على الوفاء بما طالبهم ومكنهم من التوصل إلى امتثال الأمر ، والانكفاف عن مواقع الزجر ، ولو ذهبت أتلو الآي المتضمنة لهذه المعاني لطال المرام ، ولا حاجة إلى ذلك مع قطع اللبيب المنصف به ، ومن نظر في كليات الشرائع ، وما فيها من الاستحثاث ، والزواجر عن المعاصي الموبقات وما نيط ببعضها من الحدود ، والعقوبات ، ثم تلفت على الوعد والوعيد ، وما يجب عقده من تصديق المرسلين في الأنباء ، وقول الله لهم : لم تعديتم وعصيتم وأبيتم وقد أرخيت لكم الطول وفسحت لكم المهل ، وأرسلت الرسل وأوضحت المحجة ; لئلا يكون للناس على الله حجة ، وأحاط بذلك كله ، ثم استراب في أن أفعال العباد واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم ، فهو مصاب في عقله ، أو مستقر على تقليده [ ص: 316 ] مصمم على جهله ، ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطع طلبات الشرائع ، والتكذيب بما جاء به المرسلون ، فإن زعم من لم يوفق لمنهج الرشاد أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدوره أصلا . وإذا طولب بمتعلق طلب الله بفعل العبد تحريما وفرضا ؛ ذهب في الجواب طولا وعرضا ، وقال : لله أن يفعل ما يشاء ، ولا يتعرض المتعرضون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون قيل له : ليس لما جئت به حاصل ، كلمة حق أريد بها باطل ، نعم ، يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولكن يتقدس عن الخلف ونقيض الصدق ، وقد فهمنا بضرورات المعقول من الشرع المنقول أنه - عزت قدرته - طالب عباده بما أخبر أنهم ممكنون من الوفاء به ، فلم يكلفهم إلا مبلغ الطاقة ، والوسع في موارد الشرع ، ومن زعم أنه لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه ؛ فوجه مطالبة العبد بأفعاله عنده كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات ، وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال ، وفيه إبطال الشرائع ورد ما جاء به النبيون - عليهم الصلاة والسلام ، فإذا لزم المصير إلى القول بأن العبد خالق أعماله ؛ فإنه فيه الخروج عما درج عليه السلف الأئمة ، واقتحام ورطات الضلال . ولا سبيل إلى الوقوع في أن فعل العبد بقدرته الحادثة والقدرة القديمة . فإن الفعل الواحد يستحيل حدوثه بقادرين ، إذ الواحد لا ينقسم ، فإن وقع بقدرة الله استقل بها ، ويسقط أثر القدرة الحادثة ، ويستحيل أن يقع بعضه بقدرة الله ، فإن الفعل الواحد لا بعض له ، وهذه مهواة لا يسلم من غوائلها إلا مرشد موفق ، إذ المرء بين أن يدعي الاستبداد ، وبين أن يخرج نفسه عن كونه مطالبا بالشرائع ، وفيه إبطال دعوة المرسلين ، وبين أن يثبت نفسه شريكا لله في إيجاد الفعل الواحد ، وهذه الأقسام بجملتها باطلة ولا ينجي من هذا الملتطم ذكر اسم محض ولقب مجرد من غير تحصيل معنى ، وذلك أن قائلا لو قال : إن العبد يكتسب ، وأثر قدرته الاكتساب ، والرب - تعالى - مخترع خالق لما العبد مكتسب له ؛ قيل له : فما الكسب ؟ وما معناه ؟ وأديرت الأقسام المذكورة على هذا القائل ، فلا يجد عنه مهربا . ثم قال - يعني إمام الحرمين - فنقول : قدرة العبد مخلوقة لله - تعالى - باتفاق القائلين بالصانع ، والفعل المقدور [ ص: 317 ] بالقدرة الحادثة واقع بها قطعا ، لكنه يضاف إلى الله سبحانه تقديرا وخلقا ، فإنه وقع بفعل الله وهو القدرة ، وليست القدرة فعلا للعبد ، وإنما هي صفة له ، وهي ملك له - تعالى - وخلق له ، فإذا كان موقع الفعل خلقا لله فالواقع به مضاف خلقا إلى الله - تعالى - وتقديرا ، وقد ملك الله العبد اختيارا يصرف به القدرة ، فإذا أوقع بالقدرة شيئا آل الواقع إلى حكم الله من حيث إنه وقع بفعل الله .

ولو اهتدت إلى هذا الفرقة الضالة لم يكن بيننا وبينهم خلاف ، ولكنهم ادعوا استبدادا بالاختراع وانفرادا بالخلق والابتداع ، فضلوا وأضلوا ، قال : ونبين تميزنا عنهم بتفريع المذهبين ، فإنا لما أضفنا فعل العبد إلى تقدير الإله ؛ قلنا : أحدث الله القدرة في العبد على أقدار أحاط بها علما ، وهيأ أسباب الفعل ، وسلب العبد العلم بالتفاصيل ، وأراد من العبد أن يفعل ، فأحدث فيه دواعي مستحسنة وخيرة وإرادة ، وعلم أن الأفعال ستقع على قدر معلوم بالقدرة التي اخترعها للعبد على ما علم وأراد ، فاختيارهم واتصافهم بالأقدار ، والقدرة خلق الله ابتداء ، ومقدورها مضاف إليه مشيئة وعلما وقضاء وخلقا وفعلا ، من حيث إنه نتيجة ما انفرد بخلقه وهو القدرة ، ولو لم يرد وقوع مقدورها لما أقدره عليه ، ولما هيأ أسباب وقوعه ، ومن هدي لهذا استمر له الحق المبين ، فالعبد فاعل مختار مطالب مأمور منهي ، وفعله تقدير لله مراد له خلق مقضي . قال : ونحن نضرب في ذلك مثلا شرعيا يستروح إليه الناظر في ذلك ، فنقول : العبد لا يملك أن يتصرف في مال سيده ، ولو استبد بالتصرف فيه لم ينفذ تصرفه ، فإن أذن له في بيع ماله فباعه نفذ ، والبيع في التحقيق معزو إلى السيد من حيث إن سببه إذنه ، ولولا إذنه لم ينفذ التصرف ، ولكن العبد يؤمر بالتصرف ، وينهى ويوبخ عن المخالفة ، ويعاقب ، فهذا والله الحق الذي لا غطاء دونه ، ولا مراء فيه لمن رعاه حق رعايته .

وأما الفرقة الضالة فإنهم اعتقدوا انفراد العبد بالخلق ثم صاروا إلى أنه إذا عصى فقد انفرد بخلقه فعله ، والرب كاره . فكان العبد على هذا الرأي الفاسد مزاحما لربه في التدبير موقعا ما أراد إيقاعه شاء الرب ، أو كره ؟ إلى هنا كلام إمام الحرمين في النظامية بلفظه فيما نقله عنه كذلك الإمام المحقق [ ص: 318 ] ابن القيم في شفاء العليل ، ونقله العلامة إبراهيم الكوراني الأشعري في شرح منظومة شيخه القشاشي . ولا يخفى على من نظر في كلامه تصريحه في غير موضع بأن العبد له تأثير في فعله بالاختيار ، ومراده أن العبد ليس مستقلا في إيقاع أفعاله بمجرد مشيئته ، وإن لم توافق مشيئة الحق ، بل إنما تؤثر قدرته إذا شاء الله ذلك ومكنه منه ، وهو المعبر عنه بالإذن . قال الكوراني : اختار هذا شيخنا ، وألف فيه سابقا رسالة سماها " الانتصار لإمام الحرمين فيما شنع عليه فيه بعض النظار " ، ثم اختصرها ، وزاد فيها نقولا وقف عليها فيما بعد ، وسماه " اختصار الانتصار " .

ثم وقفنا على كتاب شفاء العليل لابن القيم المنقول فيه كلام إمام الحرمين في النظامية فأعجبه ذلك ، وأمر بإلحاقه بآخر اختصار الانتصار ; ليعلم الواقف عليه أن النقل عنه بالتأثير بالإذن صحيح ، خلافا لمن أنكر ثبوته عنه من المتأخرين . قال الكوراني : وقال شيخنا في شرح المواهب اللدنية على قوله - تعالى - وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى من غزوة بدر : واعتقاد جماعة أن المراد بالآية سلب فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وإضافته إلى الله ، وجعلهم ذلك أصلا في الجبر ، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد . فبسط الكلام في إثبات الكسب على طريقة إمام الحرمين ، وتأييده بدلائل الكتاب والسنة إلى أن نقل عنه كلامه المذكور في النظامية . ثم قال : وفي شفاء العليل : قال الأشعري - رحمه الله - وابن الباقلاني بالقدرة الحادثة ، هو كون الفعل كسبا دون كونه موجودا ، أو محدثا ، فكونه كسبا وصف للوجود بمثابة كونه معلوما - انتهى - وفهموا من ذلك أن لا تأثير لقدرة العبد - يعني الأشعري - في مقدوره كما لا تأثير للعلم في معلومه ، فقالوا في قدرة العبد : إنها مصاحبة غير مؤثرة قصدا إلى التوسط .

قال : وتفسير كلام الأشعري بهذا ميل عن التوسط الذي هو الحق ، وإنما التوسط المحصل للكسب النافي لطرفي الإفراط والتفريط من الاستقلال والجبر - هو القول بأن لقدرة العبد تأثيرا في مقدوره ، ولكن بإذن الله ، لا على الاستقلال ، فاللائق أن يفسر كلام الأشعري بما يتنزل على هذا التوسط ، وكلامه قابل للتأويل ; لأنه ليس [ ص: 319 ] نصا في عدم التأثير ، فإن أوله يدل على أن الكسب واقع بالقدرة الحادثة ، والوقوع فرع التأثير ، نعم آخر كلامه يعطي أن لا تأثير لها حيث شبهه بتعلق العلم بالمعلوم ، على أن الأشعري نص في عامة كتبه على ما يدل على التأثير على ما نقله عنه صاحب شفاء العليل ، ثم حط القشاشي كلامه على أن الكسب عند الأشعري تحصيل العبد بقدرته المؤثرة بإذن الله ما تعلقت به مشيئته الموافقة لمشيئة الله ، وتقرير كلامه على هذا الوجه موافق لما قال إمام الحرمين من التوسط الذي يتحصل به مؤدى الأمر والنهي من المكلف بلا تكلف . قال الكوراني : ثم رأيت من نصوص الشيخ الأشعري - رحمه الله - في كتابه الإبانة الذي هو آخر تصانيفه كما ذكره الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية وهو - أي كتاب الإبانة - المعول عليه في المعتقد من بين كتبه ، كما دل عليه كلام الحافظ ابن عساكر ؛ ما يدل على أنه - أي الأشعري - إنما نفى الاستقلال لا أصل التأثير بإذن الله وتمكينه .

وحينئذ يكون إمام الحرمين موافقا للأشعري في التحقيق المعتمد عنده في الإبانة . ثم قال الكوراني : وهذا قول أبي إسحاق الإسفراييني ، قال : وهو الموافق لظاهر الكتاب ، والسنة ، قال : وقول أبي إسحاق الإسفراييني وإمام الحرمين هو الذي اختاره حجة الإسلام الغزالي ، فإنه قال في كتاب الشكر من الإحياء : ولا قادر إلا الملك الجبار . وقال في جوهر القرآن ، في جدير المحبة : لا قدر ولا قدرة ولا علم إلا للواحد الحق ، وإنما لغيره القدرة التي أعطاه إلخ . وقال في الإحياء : وما هو قادر عليه - يعني الإنسان - من نفسه أو غيره ، فليست قدرته من نفسه وبنفسه ، بل الله خالقه وخالق قدرته وأسبابه ، والممكن له من ذلك ، ولو سلط بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات لأهلكه ، فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه . قال الكوراني : فهو قائل : إن للعبد قدرة مؤثرة بتمكين الله لا مستقلا ، وهذا التمكين هو المعبر عنه بالإذن في قوله - تعالى - : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله انتهى ملخصا . وإنما ذكر لك أقاويل هؤلاء مع أن عمدة المعتقد عندنا الغير المنتقد في عقدنا - مذهب السلف المقرر على الوجه المرضي المحرر ; لتعلم أن محققي الأشاعرة لهم موافقة على حقيقة مذهب السلف والإغضاء عما ينمقه الخلف ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية