الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا قتيبة بن سعيد قال ) : كذا في نسخة . ( أخبرنا الليث بن سعد ) : بسكون العين ، إمام الفقه والحديث ، قال الشافعي : أنه كان أفقه من مالك إلا أنه ضيع فقهه أصحابه . ( عن أبي الزبير ) : بالتصغير ، وهو محمد بن أسلم المكي الأسدي مولاهم ، صدوق إلا أنه يدلس ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة . ( عن جابر بن عبد الله ) : أي الأنصاري ، غزا تسع عشر غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أحد المكثرين رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استشهد أبوه يوم أحد فأحياه الله وكلمه وقال : يا عبد الله ما تريد ؟ قال : أريد أن أرجع إلى الدنيا فأستشهد مرة أخرى . والمعنى أريد زيادة رضاك وهي الشهادة بعد الشهادة ، وهذه المرتبة أعلى مقاما من حال أبي يزيد حين قيل له : ما تريد ؟ فقال : أن لا أريد . وقال بعض السادة من أهل السعادة : هذه أيضا إرادة . نعم من قال :

أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد .

[ ص: 60 ] مستحسن جدا للحديث القدسي : " تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد " ، وأما قول بعضهم : وليس لي في سواك حظ فكيف ما شئت فاختبرني . فجرأة ولذا ابتلي فلم يصبر ، فما أيسر الدعوى وما أعسر المعنى ، والله أعلم . ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عرض بصيغة المجهول . ( علي ) : بتشديد الياء . ( الأنبياء ) : فيه إيماء إلى أفضليته صلى الله عليه وسلم ، لم يقل عرضت عليهم فإنهم كالحشم له ، والعسكر تعرض على السلطان دون العكس ولهذا قال بعض العارفين أنه صلى الله عليه وسلم بمنزلة القلب في الجيش والأنبياء مقدمته والأولياء ساقته والملائكة يمنة ويسرة متظاهرين متعاونين ، كما قال تعالى : ( والملائكة بعد ذلك ظهير ) والشياطين قطاع الطريق في الدين ، والمراد بالأنبياء : المعنى الأعم الشامل للرسل ، وذلك العرض ليلة الإسراء كما جاء في روايات أخر كرواية أبي العالية عن ابن عباس ، ورواية ابن المسيب عن علي وأبي هريرة : كوشف له صور أبدانهم كما كانت . وقيل كان في المنام ، ويؤيده ما ورد في بعض الطرق أنه قال : " بينا أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة " ، وذكر الخبر ، قيل : على الثاني : لا إشكال ; فإنه مثلت له أرواحهم بهذه الصور ، وعلى الأول : يجوز أنهم مثلوا بهيئاتهم التي كانوا عليها في حياتهم ، ولذا قال في رواية ابن عباس عند مسلم : " كأني أنظر إلى موسى وكأني أنظر إلى عيسى " ، وأن تكون هذه الرؤية من المعجزات وهم متمثلون في السماوات بهذه الصور على الحقيقة ، قيل : لا وجه لهذا الترديد بل الصواب أن رؤيتهم إن كانت نوما فقد مثل له صورتهم في حال حياتهم أو يقظة فهو رآهم على صورتهم الحقيقية التي كانوا عليها في حياتهم ; لأنه ثبت أن الأنبياء أحياء ، وقيل : إنه أخبر عما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم وما صدر عنهم ولهذا أدخل حرف التشبيه من الرؤية وحيث أطلقها فهي محمولة على ذلك ، ويستفاد من الحديث - على ما سيأتي - أنه ينبغي تبليغ صور العظماء إلى من لم يرهم فإن في إحضار صورهم بركة كما في ملاقاتهم ، وفيه مزيد حث على ضبط خلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( فإذا ) : للمفاجأة . ( موسى عليه السلام ) : قيل : في الكلام إيجاز والتقدير " فرأيت موسى " بقرينة قوله : " ورأيت عيسى " ، وقيل : معطوف على عرض بحسب المعنى لما فيه من معنى المفاجأة . ( ضرب ) : بفتح المعجمة وسكون الراء ، أي خفيف اللحم . ( من الرجال ) : صفة ضرب أي كائن من بين الرجال . ( كأنه ) : أي موسى . ( من رجال شنوءة ) : خبر بعد خبر كالمبين للأول ، وشنوءة فعولة بفتح المعجمة وضم النون ثم واو ساكنة ثم همزة مفتوحة بعدها تاء على زنة فعولة ، اسم قبيلة معروفة من اليمن ، ومنه أزد شنوءة ، قال ابن السكيت : وربما قال شنوة بالتشديد غير مهموز . قلت : كالنبوة والمروة ، وأما ما ضبطه العصام بضم أولها فغير مشهور رواية ولغة ، وعبارة القاموس محتملة وهم المتوسطون بين الخفة والسمن ، والظاهر أن المراد تشبيه صورته بهم لا تأكيد خفة اللحم ; لأن الإفادة خير من الإعادة ، واستشكل هذا الحديث بما ورد في رواية البخاري " مضطرب " بدل " ضرب " ، وهو الطويل سبط اللحم ، وفي رواية : " جسيم سبط اللحم " ، ودفع بأن الجسامة محمولة على الطول ولا منافاة بين الطول وخفة [ ص: 61 ] اللحم ، وبأن اختلاف البيان يحتمل أن يكون لتعدد الرؤيا ، والصور المرئية في الرؤيا كثيرا ما تختلف ، وكذا الصور الحقيقية للشخص قد تتعدد في الأوقات المختلفة فيصح أن يكون الإحضار كل صورة بصورة ، قيل : وشبهه بمتعددين دون فرد معين بخلاف من بعده إشارة إلى تمييزه عليهما بكثرة أمته وأتباعه ، وأجاب بعضهم بأنه شبه بغير معين لعدم تشخصه وتعينه في خاطره أو في نظرهم . ( ورأيت عيسى ابن مريم عليه السلام ) : وفي نسخة عليهما السلام . ( فإذا أقرب من ) : مبتدأ مضاف إلى " من " أي موصولة لا موصوفة لئلا يلزم تنكير المبتدأ . ( رأيت ) : أي أبصرت على صيغة المتكلم ومفعوله محذوف وهو ضمير عائد إلى الموصول . ( به ) : صلة قوله : ( شبها ) : بفتحتين أي مشابهة ، ونصبه على التمييز من نسبة أقرب إلى المضاف إليه وهو بيان أن المراد بالقرب القرب بحسب الصورة ، وضمير " به " عائد إلى " عيسى " قال الحنفي : وهو يفيد فائدة صلة القرب التي هي " من " أو " إلى " أن يقال : قرب منه وإليه ، وقال العصام : صلة القرب محذوفة أي إليه أو منه ، وحذفها شائع ذائع ، وجعل الباء صلة القرب على أنها بمعنى إلى وصلة شبها محذوفة تعسف ، انتهى . وقول ابن حجر شبها حال ضعيف ، وقال الفاضل الطيبي : قدم الظرف على العامل للاختصاص تأكيدا لإضافة " أفعل " إلى " من " أي كأن عروة بن مسعود أخص الناس به شبها ، فتأمل والخبر قوله : ( عروة ) : وهذا أولى من عكسه . ( ابن مسعود ) : أي الثقفي ، شهد صلح الحديبية كافرا ثم أسلم سنة تسع من الهجرة بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف واستأذنه في الرجوع فرجع فدعا قومه إلى الإسلام فأبوا ، رماه وقتله رجل من ثقيف عند تأذينه بالصلاة أو حال [ ص: 62 ] دعاء قومه إلى الإسلام فإن واحدا منهم رماه بسهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبره : " مثل عروة مثل صاحب يسين دعا قومه إلى الله فقتلوه " وحلية عروة بن مسعود لم تضبط ، ولعله اكتفى بعلم المخاطبين فلا يحصل لنا المعرفة بحلية عيسى عليه السلام لكن في رواية مسلم : " فإذا هو ربعة أحمر كأنه خرج من ديماس أي حمام " ، وفي رواية أخرى : " فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء " فجمع بين الحديثين بأنه كان له حمرة وأدمة لم يكن شيء منهما في الغاية فوصفه تارة بالحمرة وتارة بالأدمة وبأنه مبني على اختلاف الرؤيا والحلية في الأوقات وبأن السمرة لونه الأصلي والحمرة لعارض نصب ونحوه ، وبأنه زيف حديث الحمرة بإنكار راويه وتأكيد إنكاره بالخلف وجاء في رواية أنه قال : " وعيسى جعد مربوع " ، وفي رواية : " أحمر جعد عريض الصدر مضطرب " ، والمضطرب الطويل غير الشديد وقيل الخفيف اللحم . ( ورأيت إبراهيم عليه السلام فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم ) : وفي رواية : " وأنا أشبه ولد إبراهيم به " . ( يعني نفسه ) : وهو من كلام جابر أو من دونه من الرواة ، كذا قاله ميرك وملا حنفي ، وتعقبهما العصام بما لا طائل تحته وتبعه ابن حجر بقوله : الظاهر أنه من مقول جابر وتجويز كونه من كلام من بعده تكلف " وفيه أنه لا منافاة بين الظاهر وتجويز غيره مع أنه أشار إليه بتقديمه وتأخيره . نعم ، يبعد أن يكون من قول المصنف لكونه بصيغة الغائب إلا على وجه الالتفات في قوله : ( ورأيت جبريل ) : وفي نسخة : " عليه السلام " ، وعد من الأنبياء لكثرة اختلاطه معهم في تبليغ الوحي إليهم تغليبا ، وأغربابن حجر بعد قوله هو من باب عطف قصة على قصة ، ويعني أنه معطوف على عرض مع أنه مخالف للسياق المناسب لعطف رأيت على رأيت واللحاق الذي هو التشبيه كما ترى حيث قال : وما قيل إن الأصح أنه من باب التغليب غير صحيح لأن هذا عامل مستقل غير رأيت الأول فلا تغليب فيه وفيه أن التغليب في قوله عرض علي الأنبياء فتأمل ، ثم قال : وإنما غايته أنه ذكره في سياق الأنبياء مع أنه غير نبي لاختصاص النبوة بالبشر لأنه صاحب [ ص: 63 ] سر الوحي الذي ينشأ عنه النبوة ، قلت : لا معنى للتغليب إلا هذا بنكتة ، ثم قال : والجواب بأن ورأيت عطف على عرض علي بعيد يأباه سياق الكلام ، قلت هذا ليس بجواب بل قول آخر مباين للتغليب وهو بعينه من باب عطف قصة على قصة ، فبين كلاميه تناقض ، وبين سؤاله وجوابه تدافع وتعارض ، ثم قال : وبأن المراد بالأنبياء الرسل غير صحيح ، وفيه أن هذا ليس بجواب بل تأويل آخر كما يظهر بأدنى تأمل . وتوضيحه : أن المذكورين كلهم رسل والرسول يطلق على جبريل لقوله تعالى : ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) ، وقوله تعالى ( إلا من ارتضى من رسول ) على أحد القولين فيه ولا يضر اصطلاح الشرع من أن الرسول إذا أطلق يختص ببشر من بني آدم أوحي إليه بالتبليغ ، وقيل المراد بالأنبياء المعنى اللغوي أيضا فيشمل جبريل عليه السلام . ( فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية ) : بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية بالتحتانية على ما قاله أكثر أصحاب الحديث وأهل اللغة ، وقال ابن ماكولا في الإكمال : بفتح الدال ، وهو ابن خليفة الكلبي من كبار الصحابة لم يشهد بدرا وشهد ما بعدها من المشاهد ، وبايع تحت الشجرة ، وكان ممن يضرب به المثل في الحسن والجمال ، نزل الشام وبقي إلى أيام معاوية . وفي الصحيحين : كان جبريل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته أي غالبا . وروى ثلاثة أحاديث ، قال ميرك : قد ورد التصريح في كثير من الأحاديث الصحيحة أن هذا العرض وقع ليلة الإسراء ، لكن اختلفت الروايات في مكان العرض ، ففي صحيح مسلم من حديث أنس رفعه : " مررت بموسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره " ، وفيه أيضا حديث أبي هريرة رفعه : " لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي " إلى آخره ، وفيه : " ولقد رأيتني في جماعة الأنبياء ببيت المقدس فإذا موسى قائم يصلي ، فإذا رجل ضرب جعد ، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي ، أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود ، وإذا إبراهيم قائم يصلي ، أشبه الناس به صاحبكم ، فحانت الصلاة فأممتهم " . قال البيهقي : ففي حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : أنه لقيهم ببيت المقدس ، وفي حديث أبي ذر ومالك بن صعصعة : أنه لقيهم بالسماوات ، وطرق ذلك صحيحة ، فقيل اجتماعهم ببيت المقدس قبل العروج إلى السماوات ، وهو قول أكثر أهل السير ، لكن قال البيهقي : الظاهر أنه أتى موسى قائما يصلي في قبره ، ثم عرج به هو ومن ذكر من الأنبياء عليهم السلام ، فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم اجتمعوا في بيت المقدس فحضرت الصلاة فأمهم نبينا صلى الله عليه وسلم . وكذا قال الشيخ عماد الدين بن كثير في تفسيره : الصحيح أنه اجتمع بهم في السماوات ، ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيا وهو فيه فصلى بهم فيه ، انتهى . أقول : وهذا هو الظاهر لأن في أكثر الطرق الصحيحة في حديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم لما لقيهم في السماوات سأل جبريل عن حالهم وعن اسم كل واحد منهم فكأنه ما عرفهم ، فلو رآهم في المسجد الأقصى في هذه الليلة يبعد سؤاله عن حالهم وأسمائهم ، ثم قال البيهقي : وصلاتهم في أوقات مختلفة وأماكن متعددة لا يرده العقل ويثبت بالنقل ، ولا داعي لصرفه عن ظاهره فدل ذلك على حياتهم ، وجاء في حديث أن [ ص: 64 ] الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ، ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور ، فإن صح فالمراد أنهم لا يتركون يصلون إلا هذا المقدار ثم يكونون مصلين بين يدي الله تعالى ، وأما ما ذكره الغزالي ثم الرافعي مرفوعا : " أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث " فلا أصل له ، انتهى . قال ملا الحنفي : وينبغي أن يعلم أن المقصود من هذه التشابهات بيان حال المشبه - أعني : الأنبياء وجبريل عليهم السلام - فإن موسى شبه صفة والباقي صورة . وما قاله الفاضل الطيبي من أن التشبيه الأول لمجرد البيان والأخيران للبيان مع تعظيم المشبه به ، ليس على ما ينبغي لأنه لا يتعلق الغرض هنا بتعظيم بعض ومدحه دون بعض ، انتهى . وهو ليس على ما ينبغي فإن الطيبي لم يقل بالغرض الفاسد وإنما قال لبيان الواقع المستفاد من الكلام ، فتدبر يظهر لك المرام ، ولعل وجه تخصيص هذه الرسل الثلاثة من بين الأنبياء أن إبراهيم جد العرب وهو مقبول عند جميع الطوائف وموسى وعيسى رسولا بني إسرائيل من اليهود والنصارى والترتيب بينهم وقع تدليا ثم ترقيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية