الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة ، فنقول هذا إما أن يكون من جملة كلام الله تعالى أو يكون من جملة كلام اليهود ، ومن تتمة قولهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، وقد ذهب إلى كل واحد من هذين الاحتمالين قوم من المفسرين :

                                                                                                                                                                                                                                            أما الاحتمال الأول : ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قرأ ابن كثير "أن يؤتى" بمد الألف على الاستفهام ، والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام ، فإن أخذنا بقراءة ابن كثير ، فالوجه ظاهر وذلك لأن هذه اللفظة موضوعة للتوبيخ ، كقوله تعالى : ( أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) [ القلم : 14 ،15 ] ، والمعنى أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه ؟ ثم حذف الجواب للاختصار ، وهذا الحذف كثير ، يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه ، وتعديده عليه ذنوبه بعد كثرة إحسانه إليه : أمن قلة إحساني إليك ؟ أمن إهانتي لك ؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت ؟ ونظيره قوله تعالى : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [ الزمر : 9 ] ، وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر ، أما قراءة من قرأ بقصر الألف من ( أن ) فقد يمكن أيضا حملها على معنى الاستفهام كما قرئ : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) [ البقرة : 6 ] بالمد والقصر ، وكذا قوله : ( أن كان ذا مال وبنين ) [ القلم : 14 ] قرئ بالمد والقصر ، وقال امرؤ القيس : [ ص: 86 ]

                                                                                                                                                                                                                                            تروح من الحي أم تبتكر ؟ وماذا عليك ولم تنتظر



                                                                                                                                                                                                                                            أراد أتروح من الحي ؟ فحذف ألف الاستفهام ، وإذا ثبت أن هذه القراءة محتملة لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن أولئك لما قالوا لأتباعهم : لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم : ( إن الهدى هدى الله ) فلا تنكروا ( أن يؤتى أحد ) سواكم من الهدى ( مثل ما أوتيتم ) و ( أو يحاجوكم ) يعني هؤلاء المسلمين بذلك ( عند ربكم ) إن لم تقبلوا ذلك منهم ، أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله : فلا تنكروا ؛ لأن عليه دليلا وهو قوله : ( إن الهدى هدى الله ) ، فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ، ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : أن الهدى اسم للبيان ، كقوله تعالى : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) [ فصلت : 17 ] ، فقوله ( إن الهدى ) مبتدأ ، وقوله : ( هدى الله ) بدل منه ، وقوله : ( أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ) خبر بإضمار حرف لا ، والتقدير : قل يا محمد لا شك أن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان ، وأن لا يحاجوكم يعني هؤلاء اليهود عند ربكم في الآخرة ؛ لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون ، وهذا التأويل ليس فيه إلا أنه لا بد من إضمار حرف ( لا ) ، وهو جائز كما في قوله تعالى : ( أن تضلوا ) أي أن لا تضلوا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : " الهدى " اسم و ( هدى الله ) بدل منه ، و ( أن يؤتى أحد ) خبره ، والتقدير : إن هدى الله هو أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وعلى هذا التأويل فقوله : ( أو يحاجوكم عند ربكم ) لا بد فيه من إضمار ، والتقدير : أو يحاجوكم عند ربكم فيقضى لكم عليهم ، والمعنى : أن الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام الذي من حاجكم به عندي قضيت لكم عليه ، وفي قوله ( عند ربكم ) ما يدل على هذا الإضمار ؛ ولأن حكمه بكونه ربا لهم يدل على كونه راضيا عنهم ، وذلك مشعر بأنه يحكم لهم ولا يحكم عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والاحتمال الثاني : أن يكون قوله : ( أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ) من تتمة كلام اليهود ، وفيه تقديم وتأخير ، والتقدير : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ، قل إن الهدى هدى الله ، وإن الفضل بيد الله .

                                                                                                                                                                                                                                            قالوا : والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم ، وأسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين ؛ لئلا يزيدهم ثباتا ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( أو يحاجوكم عند ربكم ) فهو عطف على " أن يؤتى " ، والضمير في يحاجوكم لأحد ؛ لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم ، إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة ، وعندي أن هذا التفسير ضعيف ، وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد - عليه السلام - كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم وأشياعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد - صلى الله عليه وسلم - عند أتباعهم وأشياعهم ، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب ؟ هذا في غاية البعد .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن على هذا التقدير يختل النظم ويقع فيه تقديم وتأخير لا يليق بكلام الفصحاء .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن على هذا التقدير لا بد من الحذف ، فإن التقدير : قل إن الهدى هدى الله وإن الفضل [ ص: 87 ] بيد الله ، ولا بد من حذف " قل " في قوله : ( قل إن الفضل بيد الله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أنه كيف وقع قوله : ( قل إن الهدى هدى الله ) فيما بين جزأي كلام واحد ؟ فإن هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم ، قال القفال : يحتمل أن يكون قوله : ( قل إن الهدى هدى الله ) كلاما أمر الله نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع ؛ لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقابله بقول حق ، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر ، فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة : آمنت بالله ، أو يقول : لا إله إلا الله ، أو يقول : تعالى الله ، ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى : ( قل إن الهدى هدى الله ) من هذا الباب ، ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله : ( أو يحاجوكم عند ربكم ) ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم ، فقيل له : ( قل إن الفضل بيد الله ) إلى آخر الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            الإشكال الخامس في هذه الوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدى إلى المصدق بحرف اللام ، لا يقال صدقت لزيد ، بل يقال : صدقت زيدا ، فكان ينبغي أن يقال : ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم ، وعلى هذا التقدير يحتاج إلى حذف اللام في قوله : ( لمن تبع دينكم ) ويحتاج إلى إضمار الباء أو ما يجري مجراه في قوله : ( أن يؤتى ) لأن التقدير : ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، فقد اجتمع في هذا التفسير الحذف والإضمار وسوء النظم وفساد المعنى ، قال أبو علي الفارسي : لا يبعد أن يحمل الإيمان على الإقرار فيكون المعنى : ولا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، وعلى هذا التقدير لا تكون اللام زائدة ، لكن لا بد من إضمار حرف الباء أو ما يجري مجراه على كل حال ، فهذا محصل ما قيل في تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية