الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " واستفتحوا " يعني : استنصروا . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وحميد ، وابن محيصن : " واستفتحوا " بكسر التاء على الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المشار إليهم قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنهم الرسل ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنهم الكفار ، واستفتاحهم : سؤالهم العذاب ، كقولهم : ربنا عجل لنا قطنا [ص :16] وقولهم : إن كان هذا هو الحق من عندك . . . الآية [الأنفال :32] ، هذا قول ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وخاب كل جبار عنيد " قال ابن السائب : خسر عند الدعاء ، وقال مقاتل : خسر عند نزول العذاب ، وقال أبو سليمان الدمشقي : يئس من الإجابة . وقد شرحنا معنى الجبار والعنيد في (هود :59) .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " من ورائه جهنم " فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه بمعنى القدام ، قال ابن عباس : يريد ، أمامه جهنم . وقال أبو عبيدة : " من ورائه " أي : قدامه وأمامه ، يقال : الموت من ورائك ، وأنشد :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 352 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا



                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنها بمعنى : " بعد " قال ابن الأنباري : " من ورائه " أي : من بعد يأسه ، فدل " خاب " على اليأس ، فكنى عنه ، وحملت " وراء " على معنى : " بعد " كما قال النابغة :


                                                                                                                                                                                                                                      حلفت فلم أترك لنفسك ريبة     وليس وراء الله للمرء مذهب



                                                                                                                                                                                                                                      أراد : ليس بعد الله مذهب . قال الزجاج : والوراء يكون بمعنى الخلف والقدام ، لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك ، قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      أليس ورائي إن تراخت منيتي     لزوم العصا تحنى عليها الأصابع



                                                                                                                                                                                                                                      قال : وليس الوراء من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة ، وسئل ثعلب : لم قيل : الوراء للأمام ؟ فقال : الوراء : اسم لما توارى عن عينك ، سواء أكان أمامك أو خلفك . وقال الفراء : إنما يجوز هذا في المواقيت من الأيام والليالي والدهر ، تقول : وراءك برد شديد ، وبين يديك برد شديد . ولا يجوز أن تقول للرجل وهو بين يديك : هو وراءك ، ولا للرجل : وراءك : هو بين يديك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ويسقى من ماء صديد " قال عكرمة ، ومجاهد ، واللغويون : الصديد : القيح والدم ، قاله قتادة ، وهو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه . [ ص: 353 ] وقال القرظي : هو غسالة أهل النار ، وذلك ما يسيل من فروج الزناة . وقال ابن قتيبة : المعنى : يسقى الصديد مكان الماء ، قال : ويجوز أن يكون على التشبيه ، أي : ما يسقى ماء كأنه صديد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " يتجرعه " والتجرع : تناول المشروب جرعة جرعة ، لا في مرة واحدة ، وذلك لشدة كراهته له ، وإنما يكره على شربه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولا يكاد يسيغه " قال الزجاج : لا يقدر على ابتلاعه ، تقول : ساغ لي الشيء ، وأسغته . وروى أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقرب إليه فيكرهه ، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ويأتيه الموت " أي : هم الموت وكربه وألمه " من كل مكان " وفيه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : من كل شعرة في جسده ، رواه عطاء عن ابن عباس . وقال سفيان الثوري : من كل عرق . وقال ابن جريج : تتعلق نفسه عند حنجرته ، فلا تخرج من فيه فتموت ، ولا ترجع إلى مكانها فتجد راحة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 354 ] والثاني : من كل جهة ، من فوقه وتحته ، وعن يمينه وشماله ، وخلفه وقدامه ، قاله ابن عباس أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنها البلايا التي تصيب الكافر في النار ، سماها موتا ، قاله الأخفش .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وما هو بميت " أي : موتا تنقطع معه الحياة . " ومن ورائه " أي : من بعد هذا العذاب . قال ابن السائب : من بعد الصديد " عذاب غليظ " . وقال إبراهيم التيمي : بعد الخلود في النار . والغليظ : الشديد .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية