الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) ، وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنهم قالوا : إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ، ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن في " بلى " وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه لمجرد نفي ما قبله ، وهو قوله : ( ليس علينا في الأميين سبيل ) ، فقال الله تعالى رادا عليهم " بلى " عليهم سبيل في ذلك ، وهذا اختيار الزجاج ، قال : وعندي وقف التمام على " بلى " وبعده استئناف .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن كلمة " بلى " كلمة تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعده ، وذلك [ ص: 91 ] لأن قولهم : ليس علينا فيما نفعل جناح قائم مقام قولهم : نحن أحباء الله تعالى ، فذكر الله تعالى أن أهل الوفاء بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى لا غيرهم ، وعلى هذا الوجه فإنه لا يحسن الوقف على " بلى " ، وقوله : ( من أوفى بعهده ) مضى الكلام في معنى الوفاء بالعهد والضمير في " بعهده " يجوز أن يعود على اسم " الله " في قوله : ( ويقولون على الله الكذب ) ويجوز أن يعود على " من " لأن العهد مصدر فيضاف إلى المفعول وإلى الفاعل ، وهاهنا سؤالان :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : بتقدير أن يكون الضمير عائدا إلى الفاعل وهو " من " فإنه يحتمل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة ، فإنهم يكتسبون محبة الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : الأمر كذلك ، فإنهم إذا أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الأعظم ، وهو ما أخذ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة ، لاتقوه في ترك الكذب على الله ، وفي ترك تحريف التوراة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : أين الضمير الراجع من الجزاء إلى " من " ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد ، وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله . فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معا ؛ لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق ، فهو شفقة على خلق الله ، ولما أمر الله به ، كان الوفاء به تعظيما لأمر الله ، فثبت أن العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات والوفاء بالعهد ، كما يمكن في حق الغير يمكن أيضا في حق النفس ؛ لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات ، لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية