الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب العاشر في وطء الأب جارية ابنه ونكاحه إياها ووجوب إعفافه

                                                                                                                                                                        فيه ثلاثة أطراف .

                                                                                                                                                                        الطرف الأول : في وطئها ، فيحرم على الأب وطئ جارية ابنه مع علم بالحال ، فإن وطئها ، نظر ، أهي موطوءة الابن أم لا ؟

                                                                                                                                                                        الحالة الأولى : أن لا تكون وفيه مسائل .

                                                                                                                                                                        المسألة الأولى : لا حد على الأب لشبهة الإعفاف . وعن الإصطخري تخريج قول في وجوب الحد ، والمذهب الأول . وعلى هذا ، فيعزر على الأصح ، لحق الله ، تعالى . وقيل : لا يعزر . فعلى تخريج الإصطخري : هو كالزنا بأمة [ ص: 208 ] أجنبي . فإن أكرهها ، وجب مهر المثل ، وإن طاوعته ، فوجهان . وعلى المذهب : هو كوطء الشبهة ، فعليه المهر للابن . فإن كان موسرا ، أخذ منه . وإن كان معسرا ففي ذمته إلى أن يوسر . وقيل : إن كان معسرا ، لم يثبت في ذمته . والصحيح الأول .

                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : كما يسقط الحد ويجب المهر ، تثبت المصاهرة فتحرم الجارية على الابن أبدا ، ويستمر ملكه عليها إذا لم يوجد على الأب إحبال ، ولا شيء على الابن بتحريمها ; لأن مجرد الحل في ملك اليمين غير متقوم ، وإنما المقصود الأعظم فيه المالية وهي باقية ، وله تزويجها وتحصيل مهرها ، بخلاف ما لو وطئ زوجة ابنه أو أبيه بالشبهة ، فإنه يغرم المهر له ; لأنه فوت الملك والحل جميعا ، ولأن الحل هناك هو المقصود .

                                                                                                                                                                        [ المسألة ] الثالثة : إذا أحبلها بوطئه ، فالولد نسيب حر ، كما لو وطئ جارية أجنبي بشبهة . وهل تصير الجارية أم ولد للأب ؟ فيه أقوال . أظهرها : نعم . والثالث : إن كان الأب موسرا ، فنعم ، وإلا فلا . وضعف الأصحاب هذا . فإن قلنا به ، قال الإمام : يجب أن تخرج الأقوال الثلاثة في تعجيل الاستيلاد ، وتأخيره إلى أداء القيمة أو التوقف ، كما في سراية العتق في نصيب الشريك . وإذا قلنا : لا يثبت الاستيلاد ، فعلى الأب قيمة الولد باعتبار يوم الانفصال إن انفصل حيا ; لأن الرق اندفع بسببه . وإن انفصل ميتا ، فلا شيء عليه ، ولا يجوز للابن بيع الأمة ما لم تضع ; لأنها حامل بحر ، وهل على الأب قيمتها في الحال للحيلولة ثم تسترد عند الوضع ؟ وجهان . أصحهما : المنع ; لأن يده مستمرة عليها ومنتفع بالاستخدام وغيره ، بخلاف الآبق من يد الغاصب . وهكذا الحكم في الجارية المغرور [ ص: 209 ] بحريتها ، والموطوءة بشبهة إذا أحبلتا ، وإذا ملك الأب هذه الجارية يوما ، هل تصير أم ولد ؟ فيه قولان معروفان . أما إذا قلنا بالأظهر : إنها تصير أم ولد ، فيجب على الأب قيمتها مع المهر . فإن اختلفا في القيمة ، فالقول قول الأب على المذهب ; لأنه غارم ، وقيل : قولان .

                                                                                                                                                                        ومتى ينتقل الملك في الجارية إلى الأب ؟ فيه أربعة أوجه . أحدها : قبيل العلوق ليسقط ماؤه في ملكه صيانة له ، وبهذا قطع البغوي . والثاني : مع العلوق ، واختاره الإمام . والثالث : عند الولادة . والرابع : عند أداء القيمة بعد الولادة . وفي وجوب قيمة الولد على الأب وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : المنع . قال الإمام : لو فرض الإنزال مع تغييب الحشفة ، فقد اقترن موجب المهر بالعلوق ، فينبغي أن ينزل المهر منزلة قيمة الولد . والذي أطلقه الأصحاب من لزوم المهر ، محمول على ما إذا تأخر الإنزال عن موجب المهر على ما هو الغالب . قال البغوي : لا ولاء على الولد إن أثبتنا الاستيلاد ، وكذا إن لم يثبت على الأصح .

                                                                                                                                                                        المسألة الرابعة : استولد الأب جارية مشتركة بين ابنه وأجنبي ، فثبوت الاستيلاد في نصيب الابن على الأقوال السابقة ، فإن أثبتناه وكان موسرا ، سرى إلى نصيب الشريك ، فالولد حر ، وعلى الأب كمال المهر ، وكمال القيمة للابن والأجنبي . وإن كان معسرا ، لم يثبت الاستيلاد في نصيب الشريك ، ويكون نصف الولد حرا ونصفه رقيقا على الأظهر . وحكى أبو سعد الهروي وجها أن الاستيلاد [ ص: 210 ] لا يثبت في نصيب الشريك بحال ، ولا يجعل حق الملك وشبهته كحقيقة الملك ، ولو كان نصف الجارية للابن ونصفها حرا ، اقتصر الاستيلاد على نصيب الابن لا محالة .

                                                                                                                                                                        [ المسألة ] الخامسة : لو كان الأب المستولد رقيقا ، فلا حد عليه ، ولا تصير أم ولد ; لأنه لا يملك ، والولد نسيب . وفي حريته وجهان . أفتى القفال بالحرية كولد المغرور ، وقيمته في ذمته إلى أن يعتق ، والمهر يتعلق برقبته إن كانت مكرهة ، وإن طاوعته ، فهل يتعلق برقبته أم بذمته ؟ قولان كما لو وطئ العبد أجنبية بشبهة . ولو كان الأب المحبل مكاتبا ، ففي ثبوت الاستيلاد وجهان ، بناء على القولين في ثبوته إذ أولد جارية نفسه . ولو كان نصفه حرا ونصفه رقيقا ، لم يثبت الاستيلاد ، ويكون نصف الولد حرا ، وفي نصفه الآخر وجهان . قال البغوي : إن قلنا : إنه حر أيضا ، فعليه كمال قيمة الولد ، نصفها في كسبه ، ونصفها في ذمته . وإن قلنا : نصفه الآخر رقيق ، فعليه قيمة نصفه في كسبه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لا فرق في الأحكام المذكورة ، بين الأب المسلم والذمي ، وتجري الأقوال في ثبوت استيلاد ( الذمي وإن كان الكافر لا يشتري المسلم ; لأنه ملك قهري كالأرث .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        وطء الأب جارية البنت والحفدة كجارية ) الابن بلا فرق .

                                                                                                                                                                        [ ص: 211 ]

                                                                                                                                                                        [ الحالة ] الثانية : أن تكون الجارية موطوءة الابن ، ووطئها الأب عالما بالحال ، فلا حد عليه على الأصح أو الأظهر . والخلاف مبني على القولين في وجوب الحد على من وطئ جاريته المحرمة عليه برضاع أو نسب أو مصاهرة . الجديد الأظهر : لا حد . قال الروياني في " التجربة " : الخلاف فيما إذا لم يكن الابن استولدها ، فإن كان ، وجب الحد قطعا ، كذا قاله الأصحاب ; لأنه لا يتصور أن يملكها بحال ، بخلاف ما إذا كانت موطوءة غير مستولدة ، فإن أوجبنا الحد على الأب ، لم تحرم الجارية على الابن ، ويجب المهر إن كانت مكرهة . وإن كانت طائعة ، لم تجب على الأصح . وإن أولدها ، لم تصر أم ولد له ، ويكون الولد رقيقا غير نسيب . وعلى هذا القياس إذا وطئ الرجل جاريته المحرمة عليه برضاع وغيره وأولدها ، لا تصير أم ولد إن أوجبنا الحد . وقيل : يثبت النسب والاستيلاد هنا وفي جارية الابن وإن أوجبنا الحد فيهما ، والصحيح الأول . ولو أولد أحد الشريكين الجارية المشتركة ، ثبت النسب والاستيلاد ، وإن قلنا بالقديم : إنه يجب الحد ; لأنه وطء صادف ملكه حقيقة ، وإنما أوجبنا الحد صيانة لملك الشريك . أما إذا قلنا : لا حد على الأب ، فهو كما لو كان جاهلا يلزمه المهر ، وتصير الجارية محرمة عليهما أبدا . فإن أولدها ، فإن كانت مستولدة الابن ، لم تصر مستولدة له ; لأن أم الولد لا تقبل النقل ، وإلا ففي مصيرها مستولدة للأب الأقوال الثلاثة السابقة في الحالة الأولى .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو وطئ مكاتبة ابنه وأولدها ففي مصيرها مستولدة للأب وجهان . أحدهما : لا ; لأن المكاتبة لا تقبل النقل . والثاني : نعم ; لأنها تقبل الفسخ ، بخلاف الاستيلاد [ ص: 212 ] وهذا أصح عند البغوي ، وبالأول قطع القاضي أبو سعد الهروي . قال : وليس كما لو أولد مكاتبته ، فإنه ينفذ الاستيلاد ; لأنه لا نقل ، ولا يحتاج إلى فسخ الكتابة ، بل يجتمع الاستيلاد والكتابة ، ولا منافاة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        كانت جارية الابن منكوحة رجل ، فأولدها الأب ، ففي ثبوت الاستيلاد الأقوال الثلاثة ، ويستمر النكاح وإن أثبتنا الاستيلاد ، كما لو استولدها سيدها ، ولا يجوز للزوج وطؤها في مدة الحمل .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        لو وطئ الابن جارية الأب ، فهو كوطء الأجنبي . فإن كان بشبهة ، نظر ، إن ظنها أمته أو زوجته الحرة ، فالولد حر وعليه قيمته للأب . وإن ظنها زوجته الرقيقة انعقد الولد رقيقا ثم عتق على الجد ، ولا يجب على الابن قيمته . وإن وطئها عالما بالتحريم ، فهو زنا يتعلق به الحد ; لأن الابن لا يستحق الإعفاف على الأب ، فلا شبهة له ، بخلاف العكس ، ويلزم الابن المهر إن كانت مكرهة ، وإلا ، فلا على الأصح . ولو أتت بولد ، فهو رقيق للأب ، ولا يعتق عليه ، إذ لا نسب .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية