الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 328 ] ذكر ولاية إبراهيم بن أحمد إفريقية

في هذه السنة ( توفي محمد بن أحمد بن الأغلب ، صاحب إفريقية ، سادس جمادى الأولى ، وكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوما .

ولما حضره الموت عقد لابنه أبي عقال العهد ، واستخلف أخاه إبراهيم لئلا ينازعه ، وأشهد عليه آل الأغلب ومشايخ القيروان ، وأمره أن يتولى الأمر إلى أن يكبر ولده ، فلما مات أتى أهل القيروان إبراهيم وسألوه أن يتولى أمرهم ، لحسن سيرته ، وعدله ، فلم يفعل ، ثم أجاب ، انتقل إلى قصر الإمارة ، وباشر الأمور ، وقام بها قياما مرضيا ) .

وكان عادلا ، حازما في ( أموره ، أمن ) البلاد ، وقتل أهل البغي والفساد ، وكان يجلس للعدل في جامع القيروان يوم الخميس والاثنين ، يسمع شكوى الخصوم ، ويصبر عليهم ، وينصف بينهم .

وكان القوافل والتجار يسيرون في الطريق آمنين .

وبنى الحصون والمحارس على سواحل البحر ، حتى كان يوقد النار من سبتة فيصل الخبر إلى الإسكندرية في الليلة الواحدة ، وبنى على سوسة سورا ، وعزم على الحج ، فرد المظالم ، وأظهر الزهد والنسك ، وعلم أنه إن جعل طريقه إلى مكة على مصر منعه صاحبها ابن طولون ، فتجري بينهما حرب ، فيقتل المسلمون ، فجعل طريقة على جزيرة صقلية ليجمع بين الحج والجهاد ، ويفتح ما بقي من حصونها ، فأخرج جميع ما ادخره من المال والسلاح وغير ذلك ، وسار إلى سوسة فدخلها وعليه فرو مرقع في زي الزهاد ، أول سنة تسع وثمانين ومائتين ، وسار منها ، في الأسطول ، إلى صقلية .

[ ص: 329 ] وسار إلى مدينة يرطينوا فملكها سلخ رجب ، وأظهر العدل ، وأحسن إلى الرعية ، وسار إلى طبرمين ، فاستعد أهلها لقتاله ، فلما وصل خرجوا إليه والتقوا ، فقرأ القارئ : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) فقال الأمير اقرأ : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) ، فقرأ فقال : اللهم إني أختصم أنا والكفار إليك في هذا اليوم ! وحمل ، ومعه أهل البصائر ، فهزم الكفار ، وقتلهم المسلمون كيف شاءوا ، ودخلوا معهم المدينة عنوة ، فركب بعض من بها من الروم مراكب فهربوا فيها .

والتجأ بعضهم إلى الحصن وأحاط بهم المسلمون وقاتلوهم ، فاستنزلوهم قهرا ، وغنموا أموالهم ، وسبوا ذراريهم ، وذلك لسبع بقين من شعبان ، وأمر بقتل المقاتلة ، وبيع السبي والغنيمة .

ولما اتصل الخبر بفتح طبرمين إلى ملك الروم عظم عليه ، وبقي سبعة أيام لا يلبس التاج ، وقال : لا يلبس التاج محزون .

وتحركت الروم ، وعزموا على المسير إلى صقلية لمنعها من المسلمين ، فبلغهم أنه سائر إلى القسطنطينية ، فترك الملك بها عسكرا عظيما ، وسير جيشا إلى صقلية .

( وأما الأمير إبراهيم فإنه لما ملك طبرمين بث السرايا في مدن صقلية ) التي بيد الروم ، وبعث سرية إلى ميقش ، وسرية إلى دمنش ، فوجدوا أهلها قد أجلوا عنها ، فغنموا ما وجدوا بها .

وبعث طائفة إلى رمطة ، وطائفة إلى الياج ، فأذعن القوم جميعا إلى أداء الجزية ، فلم يجبهم إلى ذلك ، ولم يقبل منهم غير تسليم الحصون ، ففعلوا ، فهدمها ، وسار إلى كسنتة ، فجاءته الرسل منها يطلبون الأمان فلم يجبهم .

[ ص: 330 ] وكان قد ابتدأ به المرض ، وهو علة الذرب ، فنزلت العساكر على المدينة ، فلم يجدوا في قتالها لغيبه الأمير عنهم ، فإنه نزل منفردا لشدة مرضه ، وامتنع منه النوم وحدث به الفواق ، وتوفي ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين ، فاجتمع أهل الرأي من العسكر أن يولوا أمرهم أبا مضر بن أبي العباس عبد الله ليحفظ العساكر ، والأموال ، والخزائن ، إلى أن يصل إلى ابنه بإفريقية ، وجعلوا الأمير إبراهيم في تابوت ، وحملوه إلى أفريقية ودفنوه بالقيروان ، رحمه الله .

وكانت ولايته خمسا وعشرين سنة وكان عاقلا ، حسن السيرة ، محبا للخير والإحسان ، تصدق بجميع ما يملك ، ووقف أملاكه جميعها ; وكان له فطنة عظيمة بإظهار خفايا العملات ، فمن ذلك أن تاجرا من أهل القيروان كانت له امرأة جميلة صالحة عفيفة ، فاتصل خبرها بوزير الأمير إبراهيم ، فأرسل إليها ، فلم تجبه ، فاشتد غرامه بها ، وشكا حاله إلى عجوز كانت تغشاه ، وكانت أيضا لها من الأمير ( منزلة ، ومن والدته ) منزلة كبيرة وهي موصوفة عندهم بالصلاح ، يتبركون بها ، ويسألونها الدعاء ، فقالت للوزير :

أنا أتلطف بها ، وأجمع بينكما .

وراحت إلى بيت المرأة ، فقرعت الباب وقالت : قد أصاب ثوبي نجاسة أريد تطهيرها ; فخرجت المرأة ولقيتها ( فرحبت بها ) وأدخلتها ، وطهرت ثوبها ، وقامت العجوز تصلي ، فعرضت المرأة عليها الطعام ، فقالت :

إني صائمة ، ولا بد من التردد إليك ; ثم صارت تغشاها ، ثم قالت لها : عندي يتيمة أريد أن أحملها إلى زوجها ، فإن خف عليك إعارة حليك أجملها به فعلت .

وأحضرت جميع حليها وسلمته إليها ، فأخذته العجوز وانصرفت ، وغابت أياما ، وجاءت إليها ، فقالت لها : أين الحلي ؟ فقالت : هو عند الوزير ، عبرت عليه وهو معي فأخذه مني ، وقال لا يسلمه إلا إليك . فتنازعتا ، وخرجت العجوز ، وجاء التاجر زوج المرأة ، فأخبرته الخبر ، فحضر دار الأمير إبراهيم ، وأخبره بالخبر ، فدخل الأمير إلى والدته ، وسألها عن العجوز ، فقالت : هي تدعو لك ; فأمر بإحضارها ليتبرك بها ، فأحضرتها [ ص: 331 ] والدته ، فلما رآها أكرمها وأقبل عليها ، وانبسط معها .

ثم إنه أخذ خاتما من إصبعها ، وجعل يقلبه ويعبث به ، ثم إنه أحضر خصيا له وقال له : انطلق إلى بيت العجوز ، وقل لابنتها تسلم الحق الذي فيه الحلي ، وصفته كذا ، وهو كذا كذا ، وهذا الخاتم علامة منها .

فمضى الخادم ، وأحضر الحق ، فقال للعجوز : ما هذا ؟ فلما رأت الحق سقط في يدها ، وقتلها ، ودفنها في الدار ، وأعطى الحق لصاحبه ، وأضاف إليه شيئا آخر ، وقال له : أما الوزير فإن انتقمت منه الآن ينكشف الأمر ، ولكن سأجعل له ذنبا آخذه به ، فتركه مدة يسيرة ، وجعل له جرما أخذه به فقتله .

التالي السابق


الخدمات العلمية