الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
287 حديث ثان لشريك بن أبي نمر

مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال : سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون ، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أصلاتان معا ؟ أصلاتان معا ؟ وذلك في صلاة الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح .

التالي السابق


لم تختلف الرواة عن مالك في إرسال هذا الحديث فيما علمت إلا ما رواه الوليد بن مسلم ، فإنه رواه عن مالك ، عن شريك ، عن أنس ، حدثناه خلف بن القاسم قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أحمد القاضي ، حدثنا أحمد بن عمير بن جوصاء ، حدثنا محمد بن وزير ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا مالك ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أنس أن ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعوا الإقامة فقاموا يصلون ، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أصلاتان معا ؟ .

[ ص: 68 ] ورواه الدراوردي عن شريك ، فأسنده عن أبي سلمة عن عائشة ، حدثناه سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، حدثنا شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج حين أقيمت الصلاة صلاة الصبح فرأى ناسا يصلون فقال : أصلاتان معا ؟ وروى نحو هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن سرجس وابن بحينة وأبو هريرة .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، أخبرنا أبو داود قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد عن عاصم ، عن عبد الله بن سرجس قال : جاء - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصبح فصلى الركعتين ، ثم دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، فلما انصرف قال : يا فلان ، أيتهما صلاتك : التي صليت وحدك ، أو التي صليت معنا ؟ .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن حفص بن عاصم ، عن ابن بحينة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يصلي ركعتين قبل الصبح والمؤذن يقيم ، فلما فرغ من صلاته ألاث به وقال : أتصلي الصبح أربعا ؟ .

قال أبو عمر : قوله - صلى الله عليه وسلم - أصلاتان معا وقوله لهذا الرجل : أيتهما صلاتك ؟ ، وقوله في حديث ابن بحينة : أتصليهما أربعا ؟ كل ذلك إنكار منه - صلى الله عليه وسلم - لذلك الفعل ، فلا يجوز لأحد أن يصلي في المسجد ركعتي الفجر ولا شيئا من [ ص: 69 ] النوافل إذا كانت المكتوبة قد قامت ، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب ما هو أصح من هذا ، وعليه المعول في هذه المسألة عند أهل العلم ، وذلك قوله - عليه السلام - : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة يعني : التي أقيمت . وهذا يوضح معنى " أصلاتان معا " ويفسره ، وهو حديث صحيح رواه عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كذلك رواه ابن جريج ، وحماد بن سلمة ، وحسين المعلم ، وزياد بن سعد ، وورقاء ، وأيوب السختياني ، وزكرياء بن إسحاق مرفوعا ، وقد وقفه قوم من رواته على أبي هريرة ، والقول قول من رفعه ، وهو حديث ثابت ظاهر المعنى ، وبالله التوفيق .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حماد بن سلمة ، قال أبو داود : وحدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن ورقاء قال : وحدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج قال : وحدثنا الحسن قال : حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن زيد ، عن أيوب قال : وحدثنا محمد بن المتوكل قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا زكرياء بن إسحاق ، كلهم عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

[ ص: 70 ] حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الديبلي قال : حدثنا عامر بن محمد قال : حدثنا محمد بن زنبور قال : حدثنا فضيل بن عياض قال : حدثنا زياد بن سعد ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ، وقد روى هذا الحديث أبو سلمة عن أبي هريرة من وجه صحيح أيضا ، حدثناه خلف بن القاسم قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن مهران قال : حدثنا عمارة بن وثيمة بن موسى بن الفرات قال : حدثنا أبو صالح عبد الغفار بن داود الحراني قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن عبد الله بن عياش بن عباس ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة التي أقيمت .

وفي هذا الباب أيضا حديث جابر وحديث ابن عباس ، واختلف الفقهاء في الذي لم يصل ركعتي الفجر وأدرك الإمام في الصلاة ، أو دخل المسجد ليصليهما فأقيمت الصلاة ، فقال مالك : إذا كان قد دخل المسجد فليدخل مع الإمام ولا يركعهما ، وإن كان لم يدخل المسجد ، فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركع خارج المسجد ، ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد التي تصلى فيها الجمعة اللاصقة بالمسجد ، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى مع الإمام فليدخل وليصل معه ، ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب ، ولأن يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي وأفضل من تركهما .

وقال الثوري : إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد .

وقال الأوزاعي : إذا دخل المسجد يركعهما إلا أن يوقن أنه إن فعل فاتته الركعة الآخرة ، فأما الركعة الأولى فيركع وإن فاتته .

[ ص: 71 ] وقال الحسن بن حي : إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية ، دخل معه ، وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد ، ثم يدخل مع الإمام .

قال أبو عمر : اتفق هؤلاء كلهم على ركعتي الفجر والإمام يصلي ، منهم من راعى ( فوت الركعة الأولى ، ومنهم راعى ) الثانية ، ومنهم من اشترط الخروج عن المسجد ، ( ومنهم من لم يباله على حسبما ) ذكرنا عنهم ، وحجتهم أن ركعتي الفجر من السنن المؤكدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليها ، إلا أن من أصحاب مالك من قال : هما من الرغائب وليسا من السنن . وهذا قول ضعيف لا وجه له ، وكل ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسنة ، وآكد ما يكون من السنن ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليه ويندب إليه ويأمر به ، ومن الدليل على تأكيدهما أنه صلاهما حين نام عن صلاة الصبح في سفره بعد طلوع الشمس ، وهذا غاية في تأكيدهما ، ولا أعلم خلافا بين ( علماء ) المسلمين في أن ركعتي الفجر من السنن المؤكدة إلا ما ذكر ابن عبد الحكم وغيره من أصحابنا أنهما من الرغائب ، وهذا لا يفهم ما هو ، وأعمال البر كلها مرغوب فيها ، وأفضلها ما واظب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها وسنها ، ولم يختلف عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا أضاء له الفجر صلى ركعتين قبل صلاة الصبح وأنه لم يترك ذلك حتى [ ص: 72 ] مات ، فهذا عمله ، وقالت عائشة : ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قالا : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن ابن جريج قال : حدثني عطاء عن عبيد بن عمير ، عن عائشة قالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين قبل الصبح .

وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا بكر ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى ، عن سعد بن هشام ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها .

قال أبو عمر : فاحتج من قدمنا قوله من الفقهاء وأصحابهم بهذه الآثار وما كان مثلها في تأكيد ركعتي الفجر ، قالوا : هي سنة مؤكدة ، فإذا أمكن الإتيان بهما وإدراك ركعة من الصبح فلا معنى لتركهما ; لأنه لا تفوت الصلاة من أدرك ركعة منها ، وقال منهم آخرون : إذا لم تفته الركعة الأولى من صلاة الصبح فلا بأس أن يصليهما في المسجد .

وقال مالك وأبو حنيفة : خارج المسجد ; لأن النهي المذكور عندهم في حديث ابن بحينة وعبد الله بن سرجس مع قوله : " أصلاتان " معا يحتمل أن يكون ذلك ; لأنه جمع بين الفريضة والنافلة في موضع واحد كما نهى من [ ص: 73 ] صلى الجمعة أن يصلي بعدها تطوعا في مقام واحد حتى يتقدم أو يتكلم ، هذا ما نزع به الطحاوي ، وهو شيء عندي ليس بالقوي .

ومن حجة مالك وأبي حنيفة أيضا في أن يصليهما خارج المسجد إن رجا أن يدرك : ما حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا محمد بن سابق قال : حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح ولم يكن صلى الركعتين قبل صلاة الصبح ، فصلاهما في حجرة حفصة ، ثم إنه صلى مع الإمام ، فهذا ابن عمر قد صلاهما بعد أن أقيمت المكتوبة خارج المسجد ، وهو قول مالك وأبي حنيفة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : إذا دخل الرجل المسجد والقوم يصلون فلا يصلي الركعتين قبل الغداة ، ولكن ليصلهما خارجا على دكان أو على شيء ، وهذا مثله أيضا .

ومن حجة الثوري والأوزاعي في أن يصليهما في المسجد إذا رجا أن يدرك صلاة الصبح مع الإمام ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه دخل المسجد ، وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة في المسجد ركعتي الفجر ، ثم دخل في الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى قالوا : وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد .

[ ص: 74 ] وقال الشافعي : من دخل في المسجد ، وقد أقيمت الصلاة صلاة الصبح فليدخل مع الناس ركعتي الفجر . ومن قوله : أنه إذا أقيمت الصلاة دخل مع الإمام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد . وكذلك قال الطبري : لا يتشاغل أحد بنافلة بعد إقامة الفريضة .

وقال أبو بكر الأثرم : سئل أحمد بن حنبل وأنا أسمع ، عن الرجل يدخل المسجد والإمام في صلاة الصبح ولم يركع الركعتين ، فقال : يدخل في الصلاة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ، واحتج أيضا بقوله : أصلاتان معا ؟ قال أحمد : ويقضيهما من الضحى ، قيل له : فإن صلاهما بعد سلامه وفراغه من صلاة الفجر ، فقال : يجزيه ، وأما أنا فأختار أن يصليهما من الضحى ، ثم قال : حدثنا إسماعيل ابن علية ، عن أيوب عن نافع قال : كان ابن عمر يصليهما من الضحى .

قال أبو بكر الأثرم وحدثنا عفان قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا سلمة بن عائشة قال ، وقال محمد بن سيرين : كانوا يكرهون أن يصلوهما إذا أقيمت الصلاة ، وقال محمد : ما يفوته من المكتوبة أحب إلي منهما .

قال أبو عمر : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة التي أقيمت ، رواه أبو سلمة ، عن أبي هريرة وعطاء بن يسار ، عن أبي هريرة والحجة عند التنازع السنة ، فمن أدلى بها فقد أفلح ، ومن استعملها فقد نجا ، وما توفيقي إلا بالله .




الخدمات العلمية