الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1434 [ ص: 82 ] مالك عن هاشم بن هاشم حديث واحد .

وهو هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص معروف مشهور النسب شريف ، وقيل فيه : هاشم بن هاشم بن هاشم ، وقال بعضهم : إنه معروف النسب مجهول في نفسه ، وهذا عندي ليس بشيء ، وقد روى عنه مالك والدراوردي وشجاع بن الوليد أبو بدر السكوني وأبو ضمرة أنس بن عياض ومكي بن إبراهيم وأبو أسامة ومروان الفزاري ، ذكره أبو حاتم الرازي وغيره ، ويروي هاشم بن هاشم عن سعيد بن المسيب وعامر بن سعد وعائشة بنت طلحة وعبد الله بن نسطاس ، وحديث مالك عنه : مالك عن هاشم بن هاشم بن عقبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن نسطاس ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من حلف على منبري آثما تبوأ مقعده من النار .

التالي السابق


قال مصعب الزبيري : عبد الله بن نسطاس يروي عن أبيه ، عن جابر ونسطاس مولى أبي بن خلف كان جاهليا .

[ ص: 83 ] لم يختلف الرواة عن مالك في إسناد هذا الحديث ومتنه ، إلا أن أكثر الرواة عن مالك يقولون فيه : من حلف على منبري هذا بيمين آثمة . كذا قال ابن بكير وابن القاسم والقعنبي وغيرهم .

وقال يحيى : من حلف على منبري آثما . والمعنى واحد ، وفيه اشتراط الإثم ، فالوعيد لا يقع إلا مع تعمد الإثم في اليمين واقتطاع حق المسلم بها ، وهذا المعنى موجود في هذا الحديث ، وفي حديث العلاء على ما مضى في بابه من هذا الكتاب ، ومذهبنا في الوعيد أنه غير نافذ في هذا ، وفي كل ما أوعد الله أهل الإيمان عليه النار والعذاب ، فإن الله بالخيار في عبده المذنب إن شاء أن يغفر له غفر ، وإن شاء أن يعذبه عذبه ، لقول الله - عز وجل - : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) والتوبة تمحو السيئات كلها كفرا كانت أو غير ذلك ، قال الله - عز وجل - : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) ، إلا أن حقوق الآدميين لا بد فيها من القصاص بالحسنات والسيئات ، وقد بينا هذا المعنى في غير موضع من كتابنا ( هذا ) والحمد لله .

وأما اليمين على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو غيره من المنابر فقد اختلف العلماء في ذلك فذهب ذاهبون إلى أن اليمين عند المنبر ، وفي الجامع لا يكون في أقل من ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، فإذا كان ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، أو قيمة ذلك عرضا فما زاد كانت اليمين فيه في مقطع الحق بالجامع من ذلك البلد وهذه جملة مذهب مالك قال مالك : يحلف المسلم في [ ص: 84 ] القسامة واللعان ، وفيما له بال من الحقوق يريد ربع دينار فصاعدا في جامع بلده في أعظم مواضعه ، وليس عليه التوجه إلى القبلة . هذه رواية ابن القاسم .

وروى ابن الماجشون عن مالك أنه يحلف قائما مستقبل القبلة ، ولا يعرف مالك اليمين عند المنبر إلا منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط يحلف عنده في ربع دينار فأكثر ، قال مالك : ومن أبى أن يحلف عند المنبر فهو كالناكل عن اليمين ، ويجلب في أيمان القسامة عند مالك من كان من عمل مكة إلى مكة ، فيحلف بين الركن والمقام ، ويجلب في ذلك إلى المدينة من كان من عملها ، فيحلف عند المنبر ، ومذهب الشافعي في هذا الباب كمذهب مالك في المنبر بالمدينة وبين الركن والمقام بمكة في القسامة واللعان ، وأما في الحقوق فلا يحلف عنده عند المنبر في أقل من عشرين دينارا .

وذكر عن سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : أبصر عبد الرحمن بن عوف قوما يحلفون بين المقام والبيت ، فقال : أعلي دم ؟ قيل : لا ، قال : أفعلي عظيم من الأمر ؟ قيل : لا ، قال : لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام . هكذا رواه الزعفراني عن الشافعي يتهاون الناس .

ورواه المزني والربيع في كتاب اليمين مع الشاهد فقالا فيه : ( لقد ) خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام ، وهو الصحيح عندهم ، ومعنى يبهأ يأنس الناس به ، يقال : بهأت به ، أي : أنست به ، ومنبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعظيم مثل ذلك لما ورد فيه من الوعيد على من حلف عنده بيمين آثمة تعظيما له .

وذكر حديث مالك عن هاشم بن هاشم وحديث مالك عن داود بن الحصين أنه سمع أبا غطفان بن طريف المري قال : اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع إلى مروان بن الحكم في دار ، فقضى باليمين على زيد بن ثابت [ ص: 85 ] على المنبر ، فقال زيد : أحلف له مكاني ، فقال له مروان : لا والله لا والله إلا عند مقاطع الحقوق ، فجعل زيد يحلف إن حقه لحق ، ويأبى أن يحلف على المنبر ، فجعل مروان يعجب من ذلك ، قال مالك : كره زيد صبر اليمين .

قال الشافعي : وبلغني أن عمر بن الخطاب حلف على المنبر في خصومة كانت بينه وبين رجل ، وأن عثمان - رضي الله عنه - ردت عليه اليمين على المنبر فاقتدى منها ، وقال : أخاف أن توافق قدر بلاء فيقال بيمينه . قال الشافعي : واليمين على المنبر ما لا اختلاف فيه عندنا بالمدينة ومكة في قديم ولا حديث .

قال الشافعي : فعاب قولنا هذا عائب ترك فيه موضع حجتنا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والآثار بعده عن أصحابه ، وزعم أن زيد بن ثابت كان لا يرى اليمين على المنبر ، وأنا روينا ذلك عنه وخالفناه إلى قول مروان بغير حجة . قال الشافعي : هذا مروان يقول لزيد - وهو عنده ( من ) أحظى أهل زمانه وأرفعهم منزلة - : لا والله إلا عند مقاطع الحقوق . قال : فما منع زيد بن ثابت لو ( لم ) يعلم أن اليمين على المنبر حق : أن يقول مقاطع الحقوق مجلس الحكم كما قال أبو حنيفة وأصحابه : ما كان زيد ليمتنع من أن يقول لمروان ما هو أعظم من هذا ، وقد قال له : أتحل الربا يا مروان ؟ فقال مروان : أعوذ بالله ، وما هذا ؟ قال : فالناس يتبايعون الصكوك قبل أن يقبضوها . فبعث مروان الحرس ينتزعونها من أيدي الناس ، فإذا كان مروان لا [ ص: 86 ] ينكر على زيد بهذا ، فكيف ينكر عليه في نفسه أن يقول : لا تلزمني اليمين على المنبر ، لقد كان زيد من أعظم أهل المدينة في عين مروان وآثرهم عنده ، ولكن زيدا علم أن ما قضى به مروان هو الحق ، وكره أن يصبر يمينه على المنبر ، قال الشافعي : وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا ، والذي نقل الحديث فيه كأنه تكلف لاجتماعنا على اليمين عند المنبر ، قال : وقد روى الذين خالفونا في هذا حديثا يثبتونه عندهم عن منصور ، عن الشعبي وعن عاصم الأحول ، عن الشعبي ، أن عمر جلب قوما من اليمن فأدخلهم الحجر فأحلفهم ، فإن كان هذا ثابتا عن عمر ، فكيف أنكروا علينا أن يحلف من بمكة بين الركن والمقام ، ومن بالمدينة على المنبر ، ونحن لا نجلب أحدا من بلده ؟ ولو لم يحتج عليهم بأكثر من روايتهم ، أو بما احتجوا به علينا عن زيد ، لكانت الحجة بذلك لازمة ، فكيف والحجة فيها ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه بعده ؟ وهو الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا .

وذكر حديث أبي بكر الصديق في قصة قيس بن مكشوح ، فقال : أخبرني من أثق به عن الضحاك بن عثمان ، عن المقبري ، عن نوفل بن مساحق العامري ، عن المهاجر بن أبي أمية قال : كتب إلي أبو بكر أن أبعث إليه بقيس بن مكشوح في وثاق ، فبعثت به إليه فجعل قيس يحلف ما قتل دادويه ، وأحلفه أبو بكر خمسين يمينا مرددة عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالله ما قتله ، ولا علم له قاتلا ، ثم عفا عنه .

وذكر حديث مالك عن هاشم بن هاشم المذكور في هذا الباب بمثل لفظ ابن بكير وابن القاسم والقعنبي سواء .

[ ص: 87 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان وأحمد بن قاسم قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا محمد بن سعد قال : حدثنا أبو ضمرة قال : حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة الزهري ، عن عبد الله بن نسطاس قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحلف رجل على يمين آثمة عند هذا المنبر إلا يتبوأ مقعده من النار ، ولو على سواك أخضر .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا مكي بن إبراهيم قال : حدثنا هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن نسطاس مولى كثير بن الصلت ، عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من حلف من غير سبب على منبري هذا ، ولو كان سواكا أخضر ، تبوأ مقعده من النار .

ففي هذه الآثار دليل على أن اليمين تكون على المنبر لا في مجلس الحكم ، واختلف الفقهاء في اليمين على المنبر ، وفي مقدار ما يحلف عليه عند المنبر على حسبما قدمنا ، ونزيد ذلك بيانا فنقول : مذهب مالك وأصحابه ( أن ) لا يحلف على المنبر في مسجد من المساجد الجوامع إلا على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، وأما ما عداها فيحلف في الجامع ويحلف قائما ، ولا يحلف على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في المسجد الجامع بغيره من البلدان إلا في ثلاثة دراهم فصاعدا ، ولا يحلف في القسامة والدماء والحقوق التي تكون بين الناس إلا في المسجد الجامع دون المنبر من ذلك إلا بالمدينة ، فإنه يحلف في القسامة واللعان على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي ثلاثة دراهم فصاعدا .

[ ص: 88 ] وقال الشافعي : من ادعى مالا أو ادعي عليه فوجبت اليمين في ذلك نظر ، فإن كان عشرين دينارا فصاعدا ، فإن كان بالمدينة حلف على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان بمكة حلف بين الركن والمقام إذا كان ما يدعيه المدعي عشرين دينارا فصاعدا . قال : ويحلف في ذلك على الطلاق والحدود كلها وجراح العمد صغرت أو كبرت ، وجراح الخطأ ، إن بلغ أرشها عشرين دينارا ، قال : ولو أخطأ الحاكم في رجل عليه اليمين على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بين الركن والمقام فأحلفه في مكان آخر بمكة أو بالمدينة ، ففيها قولان : أحدهما أن لا تعاد عليه اليمين ، والآخر أن تعاد عليه ، واختار كثير من الصحابة أن لا تعاد عليه .

قال الشافعي : وإن كان ذلك في بيت المقدس أحلفناه في مواضع الحرمة من مسجدها وأقرب المواضع من أن يعظمها قياسا على الركن والمقام ( والمنبر ) قال : ولا يجلب أحد من بلد به حاكم إلى مكة ، ولا إلى المدينة ، ويحكم عليه حاكم بلده .

وقال مالك : لا يجلب إلى المدينة للأيمان من بعد عنها إلا في الدماء : أيمان القسامة .

قال مالك : ويحلف الناس في غير المدينة في مسجد الجماعات ليعظم ذلك .

قال أبو عمر : قد مضى في هذا الباب ، عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أنهما جلبا إلى المدينة ومكة في الأيمان في الدماء ، فقول مالك في ذلك أولى لما جاء عنهما ، وبالله التوفيق .

[ ص: 89 ] وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجب الاستحلاف عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد ، ولا بين الركن والمقام على أحد في قليل الأشياء ولا في كثيرها ، ولا في الدماء ولا في غيرها ، ولكن الحكام يستحلفون من وجبت عليه اليمين في مجالسهم .




الخدمات العلمية