الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الأول النقض

                                                      وقدمناه وإن كان من آخر الأسئلة لكثرة جريانه في المناظرات ، وبالجواب عنه يبين الجمع بين الأحكام المتضادة ويندفع تعارضها وهو تخلف الحكم مع وجود العلة ولو في صورة . فإن كان في المناظرة اشترط في صحته [ ص: 330 ] اعتراف المستدل بذلك . وتسميته نقضا صحيح عند من رآه قادحا . وأما من لم يره قدحا فلا يسميه نقضا بل يقول بتخصيص العلة . وقد بالغ أبو زيد في الرد على من يسميه نقضا ، كقولنا فيمن لم يبيت النية : صوم تعرى أوله عن النية فلا يصح ، فيقال : فينتقض بصوم التطوع . واعلم أولا أن العلة إما منصوصة قطعا أو ظنا أو مستنبطة وتخلف الحكم عنها إما لمانع أو فوات شرط أو دونهما . فصارت الصور تسعا ، من ضرب ثلاثة في ثلاثة وقد اختلفوا فيه على بضعة عشر مذهبا : طرفان ، والباقي أوساط .

                                                      أحدها : أنه يقدح في الوصف المدعى عليته مطلقا ، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة ، وسواء كان الحكم لمانع أو لا لمانع وهو مذهب المتكلمين منهم الأستاذ أبو إسحاق كما حكاه إمام الحرمين . وهو اختيار أبي الحسين البصري والإمام الرازي ، وعليه أكثر أصحابنا ، ونسبوه إلى الشافعي ، ورجحوا أنه مذهب الشافعي على غيره ، لأن علله سليمة عن الانتقاض جارية على مقتضاها ، وأن النقض يشبه تجريح البينة المعدلة ، واختاره القاضيان أبو بكر وعبد الوهاب من المالكية .

                                                      والثاني : لا يقدح مطلقا في كونها علة فيما وراء محل النقض ، ويتعين تقدير مانع أو تخلف شرط . وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد . [ ص: 331 ]

                                                      وقال الباجي : حكاه القاضي والشافعية عن أصحاب مالك ولم أر أحدا من أصحابنا أقر به ولا نصره . ووجهه أن العلة بالنسبة إلى محالها ومواردها كالعموم اللفظي بالنسبة إلى موضوعاتها ، فكما جاز تخصيص العموم اللفظي وإخراج بعض ما تناوله فكذلك في العلة ، وفرق الأولون بينه وبين العام بأن العلة مستلزمة للمعلول ، إذ هو معناها ، فإذا انتفى الاستلزام فقد انتفى لازم العلة فتنتفي العلية . وهذا مفارق العام ، لأن العام إما أن ينظر فيه إلى الدلالة الوضعية وتلك لا تنتفي بالتخصيص ، وإما أن ينظر فيه إلى الإرادة للباقي .

                                                      والثالث : لا يقدح في المنصوصة ، ويقدح في المستنبطة . واختاره القرطبي ، وحكاه إمام الحرمين عن المعظم فقال : ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة . ثم قال : مسألة : علة الشارع هل يرد عليها ما يخالف طردها ؟ ذهب الأكثرون إلى أن ذلك غير ممتنع ، لأنه لا يعرض له في التخصيص بخلاف المستنبطة ، فإن مستنده ظني . وإذا تباعد ما استنبطه عن الجريان ضعفت مسالك ظنه ، وليس له أن يحكم بتخصيص العلة . وقال في " المحصول " : زعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته . والمراد بالمنصوصة عند هؤلاء أن تكون منصوصة بالصريح أو بالإيماء أو بالإجماع ، كما نقله صاحب " التنقيح " وحكى بعض المناظرين قولا أنه لا يقدح في المنصوصة بنص قطعي ويقدح فيما عدا ذلك .

                                                      والرابع : يبطل المنصوصة دون المستنبطة ، عكس ما قبله . حكاه ابن رحال في " شرح المقترح " . وينبغي حمله على المنصوصة بغير قطعي .

                                                      والخامس : لا يقدح في المستنبطة إذا كان لمانع أو شرط ، ويقدح في المنصوصة حكاه ابن الحاجب . وقد أنكروه عليه وقالوا : لعله فهم من كلام الآمدي ، وعند التأمل يندفع من كلامه وقد حكاه ابن رحال أيضا في " شرح المقترح " . [ ص: 332 ]

                                                      والسادس : لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا ، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة . فإن لم يكن مانع قدح . واختاره البيضاوي والهندي . وفقد الشرط ملحق بالمانع .

                                                      والسابع : يجوز في المستنبطة في صورتين ولا يقدح فيهما ، وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ، ولا يجوز في صورة واحدة ويقدح فيها ، وهي ما إذا كان التخلف دونهما . وأما المنصوصة فإن كان النص ظنيا وقدر مانع أو فوات شرط جاز . وإن كان قطعيا لم يجز ، أي لم يمكن وقوعه ، لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدليل ، وهو لا يمكن أن يكون قطعيا ، لاستحالة تعارض القطعيين إلا أن يكون أحدهما ناسخا لا ظنيا ، لأن الظني لا يعارض القطعي . وهذا اختيار ابن الحاجب ، وهو قريب من تفصيل الآمدي . وحاصله أنه لا يقدح في المنصوصة إلا بظاهر عام ، ولا في المستنبطة إلا لمانع أو فقد شرط ، والمنع ظاهر في النص القطعي إذا لم يكن مانع ولا فوات شرط ، فإن كان فلا وجه للمنع إذا كان ذلك المانع أو الشرط عليه دليل ، لأنه حينئذ يكون مخصصا للنص القطعي إلا أن يقدروا أن دلالة النص على جميع أفراده قطعية ، لأنه حينئذ لا يمكن التخلف .

                                                      والثامن : حكاه القاضي عن بعض المعتزلة ، أنه يجوز تخصيص علة الحل والوجوب ونحوها مما لا يكون حظرا ( قال ) : وحملهم على ذلك قولهم : لا تصح التوبة عن قبيح مع الإصرار على قبيح ، ويصح الإقدام على عبادة مع ترك أخرى .

                                                      والتاسع : إن انتقضت على أصل من نصب عليته لم يلزمه بها الحكم ، وإن اطردت على أصل من أوردها ألزم حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن بعض المتأخرين ( قال ) : وهو حشو من الكلام لولا أنه أودع كتابا مستعملا لكان تركه أولى . [ ص: 333 ]

                                                      والعاشر : أنه يمنع المستدل من الاستدلال بالمنقوض ، ولا يدل على فساده ، لأن الدليل قد يكون صحيحا وينقضه المستدل به على نفسه ، ولا يكون انتقاضه على أصله دليلا على فساد دليله في نفسه . حكاه الأستاذ أبو منصور .

                                                      والحادي عشر : إن كانت العلة مؤثرة لم يرد النقض عليها ، لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه . ومثله لا ينقض ، وإنما تجيء المناقضة على الطرد . حكاه ابن السمعاني عن أبي زيد ، ورده بأن النقض يثير فقد تأثير العلة .

                                                      والثاني عشر : وهو اختيار إمام الحرمين : إن كانت العلة مستنبطة ، فإن اتجه فرق بين محل التعليل وبين صورة النقض بطلت عليته ، لكون المذكور أولا جزءا من العلة وليست علة تامة . وإن لم يتجه فرق بينهما ، فإن لم يكن الحكم مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمعي بطلت عليته أيضا فإنه مناقض بها وتارك للوفاء بحكم العلة . وإن طرد مسألة إجماعية لا فرق بينها وبين محل العلة فهو موضع التوقف ، فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علية العلل تعللا بعلة معنوية جارية فورودها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلة من الجريان وعارضها تقصير ، وهي آكد في الإبطال من المعارضة ، فإن علة المعارضة لا تعرض لعلة المستدل وهذه متعرضة لها . هذا رأيه في المستنبطة . وحاصله أن النقض قادح فيما إذا لم يقدح فرق ، أو لم يكن الحكم في الصورة مجمعا عليه ، أو لم يكن ثابتا بقطعي ، أو كان ثابتا بإجماع وفي محل النقض يعني تعارض العلة التي ذكرها المستدل ومنعها من الجريان . وإن لم يكن كذلك فالتوقف . وقال ابن عطاء الله في " مختصر البرهان " : الصواب في هذا أن ينظر : فإن كانت العلة المعارضة لعلة المعلل في الصورة المناقضة أقوى في المناسبة لم تبطل علته ، لأن تخلف الحكم لعارض راجح . وإن كانت أدنى بطلت ، وإن تساوتا فالوقف ( انتهى ) . [ ص: 334 ] وأما المنصوصة فإن كانت بنص ظاهر فيظهر بما أورده المعترض أن الشارع لم يرد التعليل بأن ظهر ذلك من مقتضى لفظه ، فتخصيص الظاهر وإن كان بنص لا يقبل التأويل فإن عم بصيغة لا يتطرق إليها تخصيص فلا مطمع في تخصيصها ، لقيام القطع على العلية وجريانها على اطراد ، ونص الشارع لا يصادم ، وإن نص الشارع على شيء وعلى تخصيصه في كونه علة لمسائل معدودة فلا يمنع من ذلك .

                                                      وقال إلكيا : ميل الإمام إلى أنه إن كان لا يتجه في صورة النقض معنى أمكن تقدير مشابهة محل النزاع إياها في ذلك المعنى فلا يعد نقضا ، فإن منشأ النقض عنده أن يبين كون محل النزاع نازعا إلى أصلين متنافيين وليس أحدهما بأولى من الآخر . فإنه إذا كانت شهادة الأصل متأيدة بالمعنى فلا شهادة بصورة النقض من حيث لا مشابهة فاعتبار وجه الشهادة أولى . قال إلكيا : وهذا حسن بين ، فلو كان يتجه معه ولو على بعد فإن ذلك يعد نقضا . وحاصله أن النقض لا يبطل أصل الدلالة ولكن يقدح في ثبوتها فلا يتبين به انعدامه . قال إلكيا : والذي عندنا أن ما لا يبين به معين ولا يتأتى فيه وجه تشبيه فهو لا ينفك عن ظهور استثناء في مقصود الشرع . هذا في العلل المخيلة ، أما الأشباه فستأتي مراتبها . ثم قال : والحاصل أن شهادة العلة إن ترجحت قطعا على شهادة صورة النقض لمحل النزاع فلا نقض به . فعلى هذا النقض ليس أصلا بنفسه ولكن هو من قبيل المعارضة ، وفيها مزيد قوة لما تقدم .

                                                      والثالث عشر : وهو اختيار الغزالي فقال : تخلف الحكم عن العلة له ثلاث صور :

                                                      إحداها : أن يعرض في جريان العلة ما يقتضي عدم اطرادها ، وهو [ ص: 335 ] ينقسم إلى : ما يظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استيفاء قاعدة القياس ، فلا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى ، فيكون علة في غير محل الاستثناء ، ولا فرق بين أن يرد على علة مقطوعة ، كإيجاب صاع من التمر في المصراة وضرب الدية على العاقلة ، أو مظنونة ، كالعرايا ، فإنها لا تقتضي التعليل بالطعم إذ فهم أن ذلك استثناء لرخصة الحاجة ولم يرد ورود النسخ للربا . ودليل كونه يستثنى أنه يرد على كل علة ، كالكيل وغيره .

                                                      وأما إذا لم يرد مورد الاستثناء فإن كانت منصوصة قدح ، لأنه تبين بعد النقض أن النص إنما فيه بعض العلة وجزؤها ، فإن قيده في العلة تمت ، كقولنا : خارج فتنتقض الطهارة ، أخذا من قوله : ( الوضوء مما خرج ) ثم بان أنه لم يتوضأ عن الحجامة ، فيعلم أن العلة بتمامها لم تذكر في الحديث وأن العلة إنما هي الخارج من السبيلين فكان مطلق الخروج بعض العلة . وإن لم يكن كذلك وجب تأويل التعليل وأنه غير مراد ، لقوله تعالى : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ثم علل ذلك بقوله : { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } ومعلوم أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه يعذب فتكون العلة منصوصة ولا يقال : إنه علة في حقهم خاصة لأنه يعد تهافتا في الكلام ، فثبت أن الحكم المعلل بذلك ليس هو التخريب المذكور ، بل هو لازمه أو جزؤه الأعم ، وهو كونه عذابا ، ولا شك أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه يعذب بخراب البيت أو بغيره . وإن كانت العلة مستنبطة فإن انقدح جواب عن محل النقض تبين أن ما ذكرناه ليس تمام العلة . وإن لم ينقدح جواب مناسب وأمكن أن يكون [ ص: 336 ] النقض دليلا على فساد العلة وأن يكون معرفا لتخصيصها ، فهذا يجب الاحتراز عنه بينهم في الجدل للمناظر . وأما المجتهد المناظر فيحتمل إلحاقه به ، فيجب عليه اعتقاد فسادها ، ويحتمل أن يعتقد استناده رخصة .

                                                      الثانية : أن تنتفي العلة ، لا لخلل في نفسها ، لكن يندفع الحكم عنه بمعارضة علة أخرى ، فهذا لا يرد نقضا لأن الحكم حاصل فيه تقديرا . كقولنا : إن علة رق الولد ملك الأم ثم وجدنا المغرور بحرية أمه ينعقد ولده حرا ، فقد وجد رق الأم وانتفى رق الولد . لكن عارضته علة أخرى وهي وجوب الغرم على المغرور ، ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع لم تجب قيمة الولد .

                                                      الثالثة : أن يميل النقض عن صوب جريان العلة ويتخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها وشرطها وأهلها . كقولنا : السرقة علة القطع ، وقد وجدت في حق النباش ، فينتقض بسرقة الصبي ونحوه ، أو دون النصاب ، أو من غير حرز . فهذا لا يلتفت إليه المجتهد ، لأن نظره في تحقيق العلة دون شرطها ومحلها ، فهو مائل عن صوب نظره . أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أم يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر ، وليس البحث عن المحل والشرط . واختلف فيه الجدليون ، والخطب فيه سهل ، وتكليف الاحتراز جمع لنشر الكلام ، وهو تفصيل حسن .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية