الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر إحراق قصر صاحب الزنج

لما صح الموفق من جراحه عاد إلى ما كان عليه من محاربة العلوي ، وكان قد أعاد [ بناء ] بعض الثلم في السور ، فأمر الموفق بهدم ذلك ، وهدم ما يتصل به .

وركب في بعض العشايا ، وكان القتال ، ذلك اليوم متصلا مما يلي نهر منكي ، والزنج مجتمعون فيه قد شغلوا بتلك الجهة ، وظنوا أنهم لا يؤتون إلا منها ، فأتى الموفق ومعه الفعلة ، وقرب من نهر منكي ، وقاتلهم ، فلما اشتدت الحرب أمر الذين بالشذوات بالمسير إلى أسفل نهر أبي الخصيب ، وهو فارغ من المقاتلة ( والرجالة ، فقدم أصحاب الموفق ، وأخرجوا الفعلة ، فهدموا السور من تلك الناحية ، وصعد المقاتلة ) ، فقتلوا في النهر مقتلة عظيمة ، وانتهوا إلى قصور من قصور الزنج فأحرقوها ، وانتهبوا ما فيها ، واستنقذوا عددا كثيرا من النساء اللواتي كن فيها ، وغنموا منها .

وانصرف الموفق ، عند غروب الشمس ، بالظفر والسلامة ، وبكر إلى حربهم ، وهدم السور ، فأسرع الهدم حتى اتصل بدار الكلابي وهي متصلة بدار الخبيث ، فلما أعيت الخبيث الحيل أشار عليه علي بن أبان بإجراء الماء على السباخ ، وأن يحفر خنادق في [ ص: 404 ] مواضع عدة تمنعهم عن دخول المدينة ، ففعل ذلك ، فرأى الموفق أن يجعل قصده لطم الخنادق ، والأنهار ، والمواضع المغورة ، فدام ذلك ، فحامى عنه الخبثاء ، ودامت الحرب ، ووصل إلى الفريقين من القتلى ، والجراح أمر عظيم وذلك لتقارب ما بين الفريقين .

فلما رأى شدة الأمر من هذه الناحية قصد لإحراق دار الخبيث ، والهجوم عليها من دجلة ، فكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث لها من المقاتلة ، والحماة عن داره ، فكانت الشذا إذا قربت من قصره رميت من فوق القصر بالسهام ، والحجارة من المنجنيق والمقلاع ، وأذيب الرصاص ، وأفرغ عليهم ، فتعذر إحراقها لذلك ، فأمر الموفق أن تسقف الشذا بالأخشاب ، ويعمل عليها الجبس ويطلى بالأدوية التي تمنع النار من إحراقها ، ففرغ منها ، ورتب فيها أنجاد أصحابه ، ومن النفاطين جمعا كثيرا .

واستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان كاتب الخبيث ، وكان أوثق أصحابه في نفسه ، وكان سبب استئمانه أن الخبيث أطلعه على أنه عازم على الخلاص وحده بغير أهل ولا مال ، فلما رأى ذلك من عزمه أرسل يطلب الأمان ، فأمنه الموفق وأحسن إليه ، وقيل : كان سبب خروجه أنه كان كارها لصحبة الخبيث ، مطلعا على كفره وسوء باطنه ، ولم يمكنه التخلص منه إلى الآن ففارقه ، وكان خروجه عاشر شعبان .

فلما كان الغد بكر الموفق إلى محاربة الخبثاء ، فأمر أبا العباس بقصد دار محمد الكرنابي ، وهي بإزاء دار الخبيث ، وإحراقها ، وما يليها من منازل قواد الزنج ، ليشغلهم بذلك عن حماية دار الخبيث ، وأمر المرتبين في الشذا المطلية بقصد دار الخبيث ، وإحراقها ، ففعلوا ذلك ، وألصقوا شذواتهم بسور قصره ، وحاربهم الفجرة أشد حرب ، ونضحوهم بالنيران ، فلم تعمل شيئا ، وأحرق من القصر الرواشين ، والأبنية الخارجة ، وعملت النار فيها ، وسلم الذين كانوا في الشذا مما كان الخبثاء يرسلونه عليهم بالظلال التي كانت في الشذا ، وكان ذلك سببا لتمكينهم من قصره .

وأمر الموفق الذين في الشذا بالرجوع ، فرجعوا ، فأخرج من كان فيها ورتب [ ص: 405 ] غيرهم ، وانتظر إقبال المد ، وعلوه ، فلما أقبل عادت الشذا إلى قصره ، وأحرقوا بيوتا منه كانت تشرع على دجلة ، وأضرمت النار فيها ، واتصلت ، وقويت ، فأعجلت الخبيث ومن كان معه عن التوقف على شيء مما كان له من الأموال ، والذخائر ، وغير ذلك ، فخرج هاربا وتركه كله .

وعلا غلمان الموفق قصره مع أصحابهم ، فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الذهب ، والفضة ، والحلي ، وغير ذلك ، واستنقذوا جماعة من النساء اللواتي كان الخبيث يأنس بهن ممن كان استرقهن ، ودخلوا دوره ( ودور ابنه أنكلاي ) ، فأحرقوها جميعا ، وفرح الناس بذلك ، وتحاربوا هم وأصحاب الخبيث على باب قصره ، فكثر القتل في أصحابه ، والجراح ، والأسر ، وفعل أبو العباس في دار الكرنابي من النهب والهدم ، والإحراق مثل ذلك ، وقطع أبو العباس يومئذ سلسلة عظيمة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله ، فحازها أبو العباس ، وأخذها معه .

وعاد الموفق بالناس مع المغرب مظفرا ، وأصيب الفاسق في ماله ، ونفسه ، ( وولده ، ومن ) كان عنده من نساء المسلمين ، مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر ، والجلاء ، وتشتت الشمل ، والمصيبة ، وجرح ابنه أنكلاي في بطنه جراحة أشفى منها على الهلاك .

التالي السابق


الخدمات العلمية