الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وفضل حج على غزو إلا لخوف ) ش يعني أن الحج أفضل من الغزو إلا أن يكون خوف فلا يكون أفضل هذا حل كلامه وفي المسألة تفصيل وأصل هذه المسألة في الموازية وفي رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات من العتبية ونصها : سئل مالك عن الغزو والحج أيهما أحب إليك قال الحج إلا أن يكون سنة خوف قيل فالحج والصدقة قال الحج إلا أن تكون سنة مجاعة قيل له فالصدقة والعتق قال : الصدقة قال ابن رشد : قوله إن الحج أحب إلي من الغزو إلا أن يكون خوف معناه في حج [ ص: 535 ] التطوع لمن قد حج الفريضة وإنما قال ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم { : العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } ولأن الجهاد وإن كان فيه أجر عظيم إذا لم يكن خوف قد لا يفي أجره فيه بما عليه من السيئات عند الموازنة فلا يستوجب به الجنة كالحج وأما الغزو مع الخوف فلا شك أنه أفضل من الحج التطوع والله أعلم ; لأن الغازي مع الخوف قد باع نفسه من الله - عز وجل - فاستوجب به الجنة والبشرى من الله بالفوز قال الله - تعالى - { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } الآية وإنما قال : إن الحج أحب إليه من الصدقة إلا أن تكون سنة مجاعة لأنه إذا كانت سنة مجاعة كانت المواساة عليه بالصدقة واجبة فإذا لم يواس الرجل في سنة مجاعة من ماله بالقدر الذي يجب عليه بالمواساة في الجملة فقد أثم وقدر ذلك لا يعلمه حقيقة فالتوقي من الإثم بالإكثار من الصدقة أولى من التطوع بالحج الذي لا يأثم بتركه وإنما قال : إن الصدقة أفضل من العتق لما جاء في الحديث الصحيح من { أن ميمونة بنت الحارث أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت : أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي ، قال : أوفعلت ، قالت : نعم ، قال : أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك } وهذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك برفع مؤنة الاستدلال عليه بالظواهر وبالله التوفيق انتهى .

                                                                                                                            وللمسألة أربع صور : حج التطوع مع الغزو التطوع في غير سنة الخوف ، وحج الفرض مع الغزو والتطوع في غير سنة الخوف أيضا وحج الفرض مع الغزو والتطوع في غير سنة الخوف وحج التطوع مع الغزو وفي سنة الخوف أيضا . وفهم من كلام ابن رشد حكم الثلاث الأول ثنتان بالمنطوق وواحدة بالأحروية .

                                                                                                                            أما الأولى فقد صرح بحكمها وأن التطوع بالحج أفضل من التطوع بالغزو وهذا هو الراجح وهو قول مالك وروى ابن وهب تطوع الجهاد أفضل من تطوع الحج ، قال ابن عرفة في أوائل الجهاد ابن سحنون وروى ابن وهب تطوع الجهاد أفضل من تطوع الحج انتهى ، وبهذه الرواية أفتى ابن رشد في نوازله كما سيأتي ويؤخذ حكم الصورة الثانية بالأحروية على المشهور وهو تقديم الحج على الجهاد ندبا على القول بالتراخي ووجوبا على القول بالفور وعلى مقابل المشهور أعني رواية ابن وهب المتقدمة تجرى على الخلاف في الحج هل هو على الفور فيقدم أو على التراخي فيكون تقديمه كالنقل فيقدم عليه الجهاد ندبا في غير حق حماة الدين والقائمين به ووجوبا في حقهم لأن الجهاد صار فرضا عليهم بتعينهم له فهو أولى من تقديم الحج إلا من بلغ المعترك فيتعين عليه الحج لأن الحج فرض عين بالأصالة والجهاد إنما صار فرضا عليهم بتعينهم له والله أعلم . وسيأتي كلام ابن رشد .

                                                                                                                            وحكم الثالثة تقديم الجهاد كما تقدم وأما الرابعة فإن قلت : الحج على التراخي فيقدم الجهاد وإن قلنا : إنه على الفور نظر إلى كثرة الخوف المتوقع وقلته ، هذا ما ظهر لي فيها ولم أر فيها نصا إلا أنه يؤخذ من مفهوم قوله : وأما الغزو مع الخوف فلا شك أنه أفضل من حج التطوع وإن الفرض بخلاف ذلك ويؤخذ من كلامه في الأجوبة إجراؤها على القولين في فورية الحج وتراخيه فعلى الفور يقدم الحج وعلى التراخي يؤخر وهو وإن كان لم يذكر الخوف لكنه معلوم لأن بلاد الأندلس كانت إذ ذاك فيها الخوف وهذا كله فيما إذا لم يجب الجهاد على الأعيان بأن يفجأ العدو مدينة قوم فإن وجب فلا شك في تقديمه كما سيأتي في كلام ابن رشد في الأجوبة ونصه : جوابك - رضي الله عنك - فيمن لم يحج من أهل الأندلس في وقتنا هذا هل الحج أفضل له أم الجهاد ؟ وكيف إن كان قد حج الفريضة فأجاب فرض الحج ساقط عن أهل الأندلس في وقتنا هذا لعدم الاستطاعة التي جعلها الله شرطا في الوجوب لأن الاستطاعة القدرة على الوصول مع [ ص: 536 ] الأمن على النفس والمال وذلك معدوم في هذا الزمان وإذا سقط فرض الحج لهذه العلة صار فعلا مكروها لتقحم الغرر فيه فبان بما ذكرناه أن الجهاد الذي لا تحصى فضائله في القرآن والسنة المتواترة والآثار أفضل منه وإن ذلك أبين من أن يحتاج فيه إلى السؤال عنه وموضع السؤال إنما هو فيمن قد حج الفريضة والسبيل مأمونة هل الحج أفضل أم الجهاد ؟

                                                                                                                            والذي أقول به : إن الجهاد له أفضل لما ورد فيه من الفضل العظيم وأما من لم يحج الفريضة والسبيل مأمونة فيتخرج ذلك على الخلاف في الحج هل هو على الفور أو التراخي وهذا إذا سقط فرض الجهاد عن الأعيان لقيام من قام به وأما في المكان الذي يتعين فيه على الأعيان فهو أفضل من حج الفريضة قولا واحدا للاختلاف فيه هل هو على الفور أو على التراخي وبالله التوفيق . وسئل عن أهل العدوة هل هم كأهل الأندلس ؟ فقال : سبيلهم سبيل أهل الأندلس إذا كانوا لا يصلون إلى مكة إلا بخوف على أنفسهم أو أموالهم وإن كانوا لا يخافون على أنفسهم ولا على أموالهم فالجهاد لهم عندي أفضل من تعجيل الحج إذ قد قيل : إنه على التراخي وهو الصحيح من مذهب مالك رحمه الله الذي تدل عليه مسائله وهذا في غير من عدا من يقوم بفرض الجهاد وأما من يقوم به من حماة المسلمين وأجنادهم فالجهاد هو الواجب عليهم إذ لا يتعين تعجيل الحج منهم إلا على من بلغ المعترك لأن الواجب على التراخي له حالة يتعين فيها وهو أن يغلب على ظن المكلف أنه يفوت بتأخيره والحد في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { معترك أمتي ما بين الستين إلى السبعين } انتهى .

                                                                                                                            ونقله ابن عرفة مختصرا في أوائل الجهاد ، وقال : قلت في قوله نفلا مكروها نظر لأن النفل من أقسام المندوب وهو والمكروه ضدان والشيء لا يجامع الأخص من ضده في موضع واحد إلا أن يريد نفلا باعتبار أصله مكروها باعتبار عارضه كقسم المكروه من النكاح مع أن مطلق النكاح مندوب إليه انتهى . وهذا هو المراد ولكن في قوله مكروها نظر لأنه حينئذ ممنوع لا مكروه كما تقدم والله أعلم . وقال ابن عرفة في قوله : من أدى فرضه فجهاده أفضل .

                                                                                                                            ( قلت ) : هو نقل الشيخ عن رواية ابن وهب انتهى ، كما تقدم التنبيه عليه وتقدم أيضا التنبيه على قوله ومن لم يؤد فرضه يخرج على القولين في فور الحج وتراخيه فإن ذلك على رواية ابن وهب التي أفتى بها لا على المشهور ، وقوله : وإن تعين الجهاد على الأعيان فهو أفضل من حج الفريضة قولا واحدا بل يتعين حينئذ الجهاد وترك الحج ارتكابا لأخف الضررين . فلا يجوز له الخروج وقوله : وهذا في غير من عدا من يقوم بفرض الجهاد إلخ كأنه تأكد في حق هؤلاء لكونهم عينوا له فصار واجبا عليهم بخلاف غيرهم فمن لم يحج فالجهاد أفضل له من تقدم الحج وقوله إلا من بلغ المعترك أي فيتعين عليه الخروج للحج وترك الجهاد وهذا كله على ما اختاره من أنه على التراخي ومن أن تطوع الجهاد مقدم على تطوع الحج وكلامه هنا يؤيده ما تقدمت الفتيا به عند قول المصنف وأمن على نفس ومال في سلطان يخاف إذا حج أن يستولي الكفار على بلاده ويخاف أن يفسد أمر الرعية فإنه إذا تحقق ذلك سقط عنه الفرض .

                                                                                                                            والحاصل أن من لم توجد في حقه الاستطاعة فاشتغاله بالجهاد أولى وخروجه للحج مكروه بل هو ممنوع ومن وجدت في حقه الاستطاعة فإن وجب الجهاد على الأعيان قدم على الحج الفرض

                                                                                                                            وقول ابن رشد هو أفضل من الحج الفرض يريد - والله أعلم - أنه المتعين الذي لا يجب سواه وإن لم يجب الجهاد على الأعيان فلا يخلو الشخص إما أن يكون قد حج أو لا فمن حج فلا يخلو إما أن يكون في سنة خوف أم لا فإن كانت سنة خوف فالجهاد أولى اتفاقا وإن لم تكن سنة خوف فالحج أولى على المشهور والجهاد أولى على رواية ابن رشد وفتوى ابن وهب وهذا والله [ ص: 537 ] أعلم في حق غير المتعين للجهاد لأن أولئك الجهاد فرض عليهم فهو المتعين عليهم وهذا لم يصرح به ابن رشد .

                                                                                                                            ولكنه يؤخذ بالأحروية مما سيقوله في القسم الآتي ، وأما من لم يحج فلا يخلو أيضا من أن تكون سنة خوف أم لا فإن لم تكن سنة خوف فعلى المشهور لا إشكال في تقديم حج الفريضة وجوبا على القول بالفورية وندبا على القول بالتراخي سواء كان من القائمين بالجهاد أو من غيرهم وعلى رواية ابن وهب وفتوى ابن رشد ينظر فإن قلنا : على الفور قدمه سواء كان من القائمين بالجهاد أم لا وإن قلنا : بالتراخي قدم الجهاد ندبا إن كان من غير القائمين بالجهاد ووجوبا إن كان منهم إلا من بلغ المعترك فيتعين عليه الحج وإن كانت سنة خوف فصرح في الرواية بتقديم الجهاد على الحج لكن حمله ابن رشد على حج التطوع كما تقدم ومفهومه أن الفرض بخلاف ذلك وكلامه في الأجوبة يقتضي أن ذلك يتخرج على الخلاف في فورية الحج وتراخيه أعني قوله وأما من لم يحج الفرض والسبيل مأمونة إلخ لأن فرض المسألة مع وجود الخوف كما كان أهل الأندلس في زمانه فعلى اختياره أنه على التراخي وأن تطوع الجهاد يقدم عليه ولا شك في تقديم الجهاد وعلى القول بالفور وإن تطوع الحج مقدم على تطوع الجهاد فالظاهر تقديم الحج .

                                                                                                                            ويؤخذ من مفهوم كلام ابن رشد كما تقدم التنبيه عليه ويتردد النظر فيما إذا قلنا : إنه على التراخي وقلنا : إنه مقدم على تطوع الجهاد والظاهر أنه ينظر إلى أخف الضررين فيرتكب والله أعلم ، وقول القرافي في الفرق التاسع والمائة قال مالك : الحج أفضل من الغزو لأن الغزو فرض كفاية والحج فرض عين قد يوهم أن مراد مالك بالحج المفضل حج الفريضة وليس كذلك كما تقدم في كلام ابن رشد والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية