الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وهل الحمد على كل ما يحمد به الممدوح وإن لم يكن باختياره أو لا يكون الحمد إلا على الأمور الاختيارية .

                كما قيل في الذم ؟ فيه نظر ليس هذا موضعه . وفي الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : ربنا ولك الحمد . ملء السماء وملء [ ص: 312 ] الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد . أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد - لا مانع لما أعطيت . ولا معطي لما منعت . ولا ينفع ذا الجد منك الجد } هذا لفظ الحديث . " أحق " أفعل التفضيل . وقد غلط فيه طائفة من المصنفين فقالوا { حق ما قال العبد } . وهذا ليس لفظ الرسول . وليس هو بقول سديد . فإن العبد يقول الحق والباطل . بل حق ما يقوله الرب . كما قال تعالى { فالحق والحق أقول } . ولكن لفظه { أحق ما قال العبد } خبر مبتدأ محذوف . أي الحمد أحق ما قال العبد . أو هذا - وهو الحمد - أحق ما قال العبد . ففيه بيان : أن الحمد لله أحق ما قاله العباد . ولهذا أوجب قوله في كل صلاة وأن تفتتح به الفاتحة . وأوجب قوله في كل خطبة وفي كل أمر ذي بال . والحمد ضد الذم . والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له .

                فإذا قيل : إنه سبحانه يفعل الخير والحسنات وهو حكيم رحيم [ ص: 313 ] بعباده أرحم بعباده من الوالدة بولدها : أوجب ذلك أن يحبه عباده ويحمدوه . وأما إذا قيل : بل يخلق ما هو شر محض لا نفع فيه ولا رحمة ولا حكمة لأحد . وإنما يتصف بإرادة ترجح مثلا على مثل . لا فرق عنده بين أن يرحم أو يعذب . وليست نفسه ولا إرادته مرجحة للإحسان إلى الخلق بل تعذيبهم وتنعيمهم سواء عنده .

                وهو - مع هذا - يخلق ما يخلق لمجرد العذاب والشر ويفعل ما يفعل لا لحكمة - ونحو ذلك مما يقوله الجهمية - : لم يكن هذا موجبا لأن يحبه العباد ويحمدوه . بل هو موجب للعكس . ولهذا فإن كثيرا من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم والطعن . ويذكرون ذلك نظما ونثرا . وكثير من شيوخ هؤلاء وعلمائهم من يذكر في كلامه ما يقتضي هذا .

                ومن لم يقله بلسانه فقلبه ممتلئ به لكن يرى أن ليس في ذكره منفعة أو يخاف من عموم المسلمين . وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا . وهؤلاء يقيمون حجج إبليس وأتباعه على الله . ويجعلون الرب ظالما لهم . [ ص: 314 ] وهو خلاف ما وصف الله به نفسه في قوله تعالى { وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين } وقوله { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } وقوله { وما ربك بظلام للعبيد } . كيف يكون ظالما ؟ وهم فيما بينهم لو أساء بعضهم إلى بعض أو قصر في حقه لكان يؤاخذه ويعاقبه وينتقم منه . ويكون ذلك عدلا إذا لم يعتد عليه . ولو قال : إن الذي فعلته قدر علي فلا ذنب لي فيه : لم يكن هذا عذرا له عندهم باتفاق العقلاء . فإذا كان العقلاء متفقين على أن حق المخلوق لا يجوز إسقاطه احتجاجا بالقدر .

                فكيف يجوز إسقاط حق الخالق احتجاجا بالقدر
                . وهو سبحانه الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة . وإن تك حسنة يضاعفها . ويؤت من لدنه أجرا عظيما . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع . فقوله { أحق ما قال العبد } يقتضي : أن حمد الله أحق ما قاله العبد . فله الحمد على كل حال . لأنه لا يفعل إلا الخير [ ص: 315 ] والإحسان الذي يستحق الحمد عليه سبحانه وتعالى .

                وإن كان العباد لا يعلمون . وهو سبحانه خلق الإنسان وخلق نفسه متحركة بالطبع حركة لا بد فيها من الشر لحكمة بالغة ورحمة سابغة . فإذا قيل : فلم لم يخلقها على غير هذا الوجه ؟ . قيل : كان يكون ذلك خلقا غير الإنسان . وكانت الحكمة التي خلقها بخلق الإنسان لا تحصل . وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } وما لم تعلمه الملائكة فكيف يعلمه آحاد الناس .

                ونفس الإنسان خلقت كما قال الله تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا } { إذا مسه الشر جزوعا } { وإذا مسه الخير منوعا } وقال تعالى { خلق الإنسان من عجل } . فقد خلقت خلقة تستلزم وجود ما وجد منها لحكمة عظيمة ورحمة عميمة . فكان ذلك خيرا ورحمة . وإن كان فيه شر إضافي كما تقدم .

                فهذا من جهة الغاية مع أنه لا يضاف الشر إلى الله . وأما الوجه الثاني من جهة السبب : فإن هذا الشر إنما وجد لعدم [ ص: 316 ] العلم والإرادة التي تصلح النفس . فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة الله ومحبته . وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك . وهذا كله من فضل الله وإحسانه . لكن النفس المذنبة لما لم يحصل لها من يكملها بل حصل لها من زين لها السيئات - من شياطين الإنس والجن - مالت إلى ذلك وفعلت السيئات .

                فكان فعلها للسيئات . مركبا من عدم ما ينفع وهو الأفضل . ووجود هؤلاء الذين حيروها . والعدم لا يضاف إلى الله . وهؤلاء : القول فيهم كالقول فيها : خلقهم لحكمة . فلما كان عدم ما تعمل به وتصلح : هو أحد السببين . وكان الشر المحض الذي لا خير فيه : هو العدم المحض والعدم لا يضاف إلى الله . فإنه ليس شيئا . والله خالق كل شيء : كانت السيئات منها باعتبار [ أن ] ذاتها في نفسها مستلزمة للحركة الإرادية التي تحصل منها - مع عدم ما يصلحها - تلك السيئات .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية