الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وفاة الموفق

وفيها توفي أبو أحمد الموفق بالله بن المتوكل ، وكان قد مرض في بلاد الجبل ، فانصرف وقد اشتد به وجع النقرس ، فلم يقدر على الركوب ، فعمل له سرير عليه قبة ، فكان يقعد عليه [ هو ] وخادم له يبرد رجله بالأشياء الباردة ، حتى إنه يضع عليها الثلج ، ثم صارت علة برجله ، داء الفيل ، وهو ورم عظيم يكون في الساق ، يسيل منه ماء .

وكان يحمل سريره أربعون رجلا بالنوبة ، فقال لهم يوما : قد ضجرتم من حملي ، بودي أن أكون كواحد منكم أحمل على رأسي ، وآكل ، وأنا في عافية .

وقال في مرضه : أطبق ديواني ( على ) مائة ألف مرتزق ، ما أصبح فيهم أسوأ [ ص: 459 ] حالا مني ، فوصل إلى داره لليلتين خلتا من صفر .

وشاع موته بعد انصراف أبي الصقر من داره ، وكان تقدم بحفظ أبي العباس ، فأغلقت عليه أبواب دون أبواب ، وقوي الإرجاف بموته ، وكان قد اعترته غشية ، فوجه أبو الصقر إلى المدائن ، فحمل منها المعتمد وأولاده ، فجيء بهم إلى داره ، ولم يسر أبو الصقر إلى دار الموفق .

فلما رأى غلمان الموفق المائلون إلى أبي العباس والرؤساء من غلمان أبي العباس ما نزل بالموفق ، كسروا الأقفال ، والأبواب المغلقة على أبي العباس ، فلما سمع أبو العباس ذلك ظن أنهم يريدون قتله ، وأخذ سيفه بيده ، وقال لغلام عنده : والله لا يصلون إلي وفي شيء من الروح ! فلما وصلوا إليه رأى في أولهم غلامه وصيفا موشكير ، فلما رآه ألقى السيف من يده ، وعلم أنهم ما يريدون إلا الخير ، فأخرجوه ، وأقعدوه عند أبيه ، فلما فتح عينه رآه ، فقربه وأدناه إليه .

وجمع أبو الصقر عند القواد والجند ، وقطع الجسرين ، وحاربه قوم من الجانب الشرقي ، فقتل بينهم قتلى ، فلما بلغ الناس أن الموفق حي حضر عنده محمد بن أبي الساج ، وفارق أبا الصقر ، وتسلل القواد ، والناس عن أبي الصقر ، فلما رأى أبو الصقر ذلك حضر هو وابنه دار الموفق ، فلما قال له الموفق شيئا مما جرى ، فأقام في دار الموفق ، فلما رأى المعتمد أنه بقي في الدار نزل هو وبنوه وبكتمر ، فركبوا زورقا ، فلقيهم طيار لأبي ليلى بن عبد العزيز بن أبي دلف ، فحمله فيه إلى دار علي بن جهشيار .

وذكر أعداء أبي الصقر أنه أراد أن يتقرب إلى المعتمد بمال الموفق ، وأسبابه ، وأشاعوا ذلك عنه عند أصحاب الموفق ، فنهبت دار أبي الصقر ، حتى أخرجت نساؤه منها حفاة بغير أزر ، ونهب ما يجاورها من الدور ، وكسرت أبواب السجن ، وخرج من كان فيها .

وخلع الموفق على ابنه أبي العباس ، وعلى أبي الصقر ، وركبا جميعا ، فمضى أبو العباس إلى منزله ، وأبو الصقر إلى منزله وقد نهب ، فطلب حصيرة يقعد عليها عارية ، [ ص: 460 ] فولى أبو العباس غلامه بدرا الشرطة ، واستخلف محمد بن غانم بن الشاه على الجانب الشرقي .

ومات الموفق يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر من هذه السنة ، ودفن ليلة الخميس بالرصافة ، وجلس أبو العباس للتعزية .

وكان الموفق عادلا ، حسن السيرة ، يجلس للمظالم ، وعنده القضاة ، وغيرهم ، فينتصف الناس بعضهم من بعض ، وكان عالما بالأدب ، والنسب ، والفقه ، وسياسة الملك ، وغير ذلك ، قال يوما : إن جدي عبد الله بن العباس قال : إن الذباب ليقع على جليسي فيؤذيني ذلك ، وهذا نهاية الكرم ، وأنا والله أرى جلسائي بالعين التي أرى بها إخواني ، والله لو تهيأ لي أن أغير أسماءهم لنقلتها من الجلساء إلى الأصدقاء والإخوان .

وقال يحيى بن علي : دعا الموفق يوما جلساءه ، فسبقتهم وحدي ، فلما رآني وحدي أنشد يقول :


وأستصحب الأصحاب حتى إذا دنوا وملوا من الإدلاج جئتكم وحدي



فدعوت له ، واستحسنت إنشاده في موضعه ، وله محاسن كثيرة ليس هذا موضع ذكرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية