الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أما حب الله تعالى - أي حب عبده له - فهو الذي يجب أن يكون فوق كل حب ; لأنه سبحانه وتعالى هو المتصف وحده بكل ما شأنه أن يحب من جمال وكمال ، وبر وإحسان ، وكل من يحب وما يحب في الوجود فهو من صنعه وفيض جوده وإحسانه ، ومظهر أسمائه الحسنى وصفاته ، فمن الطبيعي المعقول أن يكون حب الوالد للولد ، وما يتضمنه من عطف وأمل ، شعبة من حب واهبه ، ومودع العطف والرحمة في قلب والديه له . وأن يكون حب الولد لوالده ومربيه عندما يعقل جزءا من حب ربه الذي سخره له ، وساقه بغريزة الفطرة وحكم الشريعة لتربيته ، وهو عز وجل رب كل شيء ، المربي الحق لكل حي ، بسننه في الغرائز والقوى والأخلاق ، وما يترتب عليها من الأعمال ، وهو جل ثناؤه الخلف والعوض من كل واحد ليتيمه ، ومن كل ولد لأبيه وأمه ، ومن الطبيعي المعقول أن يكون حب الأخ لأخيه كذلك بالأولى ، وكذلك حب الزوج للزوج لا يشذ عن هذه القاعدة ، فهو الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى ، وهو الذي أودع المحبة الزوجية في الأنفس ، ولم يخصها بفرد معين ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ( 30 : 21 ) وحب العشيرة أحق وأولى بالدخول في عمومها ، فإن الباعث عليه التعاون والتناصر بوشيجة القرابة ، وقد حل محلها في الإسلام ما هو أقوى وأعظم ، وهو تناصر أهل الملة الكبيرة بمقتضى أحكام الشريعة ، والله ولي المؤمنين ونصيرهم بوجه أخص وما النصر إلا من عند الله ( 3 : 126 ) بالوجه الأعم .

                          [ ص: 209 ] وكذلك الأموال بجميع أنواعها ، ومنها عروض التجارة التي يرجى رواجها ، ويخشى كسادها - كلها من جوده وعطائه وتسخيره - وحبها يجب أن يكون دون حبه بل هو دون ما تقدمه من الحب وإن فتن به أكثر الماديين ، وكثير من الذين حرموا تهذيب الدين ، فصارت أموالهم من أسباب شقائهم في دنياهم حتى إن منهم من يبخل بها عن نفسه وأهله وولده ، والمساكن دون الأموال ; لأن صاحب المال يمكنه أن يبني منها مثل ما يفقده أو خيرا منه ، وقد أغنى الله المؤمنين الصادقين عن كل ما فقدوا أو خافوا أن يفقدوا بنبذ عهود المشركين ، وعودة حال الحرب بينهما ، وكذب وهم ضعفاء الإيمان . وإيهام المنافقين لهم بأن الجهاد في سبيل الله سبب الكساد والخسران ، وصدق وعد الله للمؤمنين باستخلافه إياهم في الأرض ، وتمكينهم فيها ، وجعلهم أغنى أهلها ما داموا مهتدين به كما وعدهم في قوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ( 24 : 55 ) إلخ ولو عادوا إلى تلك الهداية ، لعادت إليهم تلك الخلافة .

                          وإن فوق جميع هذه الأنواع من حبه تعالى لفضله وإحسانه بالإيجاد والإمداد في الدنيا ، وتسخير قواها ومنافعها للناس ، وحبه لما وعد به مما يشبهه ، ولكن يعلوه ويفوقه من الثواب في الدار الآخرة نوع آخر هو حب العبادة المحضة والمعروفة العليا . وقد بينا معناه وسببه في تفسير : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ( 2 : 165 ) وبينا خطأ المشركين في إشراك أندادهم معه فيه لتوهمهم أنهم وسيلة إليه وشفعاء عنده يقربون من توسل بهم إليه زلفى . وكون المؤمنين أشد منهم حبا لله ; لأنهم أعلم بما يجب العلم به من صفات جلاله وجماله وكماله ، ومن توحده بالربوبية - ومن آثارها التدبير والنفع والضر بالأسباب التي هو خالقها ومسخرها وبغير الأسباب إن شاء وانفراده بالأولوهية وهي كونه هو المعبود الحق وحده ، فحبهم إياه مجتمع ثابت كامل لا شائبة للإشراك فيه ، وبينا في مقابلة هذا كون حب المشركين للأنداد بسبب ذلك الاعتقاد نهيا مقسما على معبودات متعددة .

                          ثم إن حب المؤمن العارف لله تعالى له درجات تتفاوت بتفاوت معارفه بآيات الله في خلقه الدالة على صفات جماله وكماله ، ومقدار إدراكه لما فيها من الإبداع والإتقان كما قال : صنع الله الذي أتقن كل شيء ( 27 : 88 ) وقال : الذي أحسن كل شيء خلقه ( 32 : 7 ) وقد بينا هذا في تفسير قوله عز وجل : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ( 3 : 31 ) كما بينا فيه معنى حبه تعالى لعباده الموحدين المتبعين لما جاء به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النور والهدى والفرقان . وقد جهل علماء الألفاظ والتقاليد كنه هذا [ ص: 210 ] الحب فتأولوه كما تأولوا غيره من صفات الله تعالى وشئونه الكمالية ، توهما منهم أنها تعارض تنزهه عن مشابهة الناس في صفاتهم البشرية ، فكان حظهم من معرفة ربهم وإلههم التعطيل بشبهة التنزيه الذي هو معنى سلبي محض ثم أعدنا بيان ما ذكر في تفسير قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ( 5 : 54 ) .

                          وأما حب رسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله فهو دون حبه عز وجل ، وفوق حب تلك الأصناف الثمانية وغيرها ممن يحب من الخلق كالعلماء العاملين ، والمرشدين المربين ، والفنانين المتقين ، والزعماء السياسيين ، والأغنياء المحسنين فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان المثل البشري الأعلى ، والأسوة الحسنة المثلى ، في أخلاقه وآدابه وفضائله وفواضله وسياسته ورياسته وسائر هديه ، قد خصه الله بجعله خاتم النبيين ، وإرساله رحمة للعالمين ، وجعل اتباعه هو الدليل على حب متبعه لله عز وجل ، وجعل جزاءه عنده حبه تعالى لمتبعه ، ومغفرته لجميع ذنوبه ، وذلك نص آية ( 3 : 31 ) آل عمران التي ذكرناها آنفا ، وسنزيد هذا الحب وحب الله تعالى بيانا في هذا المقام ، وقد عطف عليهما الجهاد في سبيله منكرا; لأنه أظهر آياتهما ونكتة تنكيره وإبهامه إفادة أن كل نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله قل أو كثر ، فإن تاركه لأجل حب شيء من تلك الأصناف الثمانية وتفضيلها عليه يستحق الوعيد الذي في الآية ، والجهاد أنواع ترجع إلى جنسين : الجهاد بالمال ، والجهاد بالنفس . والقتال نوع من أنواع الجنس الثاني ، ومنها أنواع أخرى علمية وعملية . فمهندس الحرب الحق العادلة مجاهد في سبيل الله ، وواضع الرسوم لمواطنها وطرقها كذلك ، إلخ .

                          وإذا كان الأمر كذلك - وهو كذلك - فلا ريب أن من كان ما ذكر من الأصناف الثمانية كلها أو بعضها أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله ، فهو غير تام الإيمان أو غير صحيحه كما تشير إليه آية المائدة ( 5 : 54 ) التي استشهدنا بها آنفا . فقوله عز وجل فتربصوا حتى يأتي الله بأمره و . . . أبهم لتذهب أنفسهم فيه كل مذهب ، وأقرب ما يفسر به قوله في وعيد المنافقين من هذه السورة : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ( 52 ) وما كان أولئك الذين يؤثرون حب أهلهم وأموالهم على حب الله ورسوله ، والجهاد في سبيله إلا من المنافقين فهم الذين كانوا يثبطون المؤمنين عن الجهاد ، ويوحون إليهم زخرف الاعتراض على نبذ عهود المشركين ، وإعلان حالة الحرب بينهم وبين المؤمنين ، كما بيناه مرارا . وما روي عن مجاهد أن المعنى [ ص: 211 ] حتى يأتي الله بالأمر بالهجرة ، وأن هذا كله كان قبل فتح مكة - فما أراه يصح عنه ، وقد تقدم نقل الاتفاق على نزول هذه الآيات ( وكذا السورة جلها أو كلها ) بعد فتح مكة وغزوة حنين وتبوك ، وأنها مما بلغ للمشركين في موسم سنة تسع بعد سقوط فريضة الهجرة بنص حديث لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا رواه البخاري من حديث مجاشع بن مسعود مرفوعا . ورواه في مواضع أخرى بلفظ " بعد الفتح " من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ والوعيد هنا على ترك الجهاد دون الهجرة .

                          والله لا يهدي القوم الفاسقين الفسق في اللغة: خروج الشيء أو الشخص عما كان فيه أو عما من شأنه أن يكون فيه بحسب الخلقة أو العرف أو الشريعة قال في المصباح : ويقال أصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد ، يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها . وكذلك كل شيء خرج عن قشره فقد فسق ، قاله السرقسطي ، وقيل للحيوانات الخمس فواسق; استعارة وامتهانا لهن لكثرة خبثهن وأذاهن ، حتى قيل يقتلن في الحل وفي الحرم ، وفي الصلاة ولا تبطل الصلاة بذلك . اهـ . وهو في الاستعارة الخروج من حدود الدين والشريعة بالكفر المخرج من الملة أو فيما دونه من الكبائر ، وفي اصطلاح الفقهاء تخصيصه بالأخير ، وقد يستعمل في القرآن بمعنى الخروج من سلامة الفطرة إلى فساد الطباع ، ومن نور العقل إلى ظلمة الجهل والتقليد كما بيناه في تفسير : ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ( 2 : 99 ) بحيث يكون متمردا لا يقبل هداية الدين . والمعنى هنا : وقد مضت سنة الله تعالى في القوم الفاسقين المارقين من الدين بعد معرفته كالمنافقين أو يكونوا محرومين من الهداية الفطرية التي يعرفها الناس بالعقل السليم والوجدان الصحيح ، فلا يعرفون ما فيه مصلحتهم وسعادتهم من اتباعه ، فيؤثرون حب القرابة والمنفعة العارضة كالمال والتجارة على حب الله ورسوله ، والجهاد المفروض في سبيله ، ويصح تفسيره بمقابله وعكسه فيقال : وقد مضت سنته تعالى في القوم الفاسقين من محيط الفطرة السليمة ، ونور العقل الراجح اتباعا للهوى أو التقليد أو يحرموا من فقه هداية الدين فلا يعقلونها وأهمها العلم بما في إيثار حب الله وحب رسوله ، والجهاد في سبيله من الصلاح والإصلاح . والفوز بسعادة الدارين بما يقتضيه الولاء والاتحاد بين المؤمنين من إزالة خرافات الشرك ومفاسده ، وإقامة الحق والعدل وما يستلزمهما من ثبات الملك .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية