الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما

                                                                                                                                                                                                                                        ثلة من الأولين فيه ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: أنهم الجماعة ، ومنه قول الشاعر


                                                                                                                                                                                                                                        ولست ذليلا في العشيرة كلها تحاول منها ثلة لا يسودها

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: الشطر وهو النصف ، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أنها الفئة ، قاله أبو عبيدة ، ومنه قول دريد بن الصمة


                                                                                                                                                                                                                                        ذريني أسير في البلاد لعلني     ألاقي لبشر ثلة من محارب

                                                                                                                                                                                                                                        وفي قوله تعالى من الأولين قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو بكرة.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنهم قوم نوح، قاله الحسن . وقليل من الآخرين فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنهم الذين تقدم إسلامهم قبل أن يتكاملوا ، روى أبو هريرة أنه لما [ ص: 450 ] نزلت ثلة من الأولين وقليل من الآخرين شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فقال عليه السلام: (إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل ثلت أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                        على سرر موضونة يعني الأسرة، واحدها سرير، سميت بذلك لأنها مجلس السرور.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي الموضونة أربعة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: أنها الموصولة بالذهب، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنها المشبكة النسج، قاله الضحاك ، ومنه قول لبيد


                                                                                                                                                                                                                                        إن يفزعوا فسرا مع موضونة     والبيض تبرق كالكواكب لامها

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أنها المضفورة، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد ، ومنه وضين الناقة وهو البطان العريض المضفور من السيور.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: أنها المسندة بعضها إلى بعض. يطوف عليهم ولدان مخلدون الولدان: جمع وليد وهم الوصفاء.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي قوله تعالى مخلدون قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: [مسورون] بالأسورة ، [مقرطون] بالأقراط ، قاله الفراء ، قال الشاعر


                                                                                                                                                                                                                                        ومخلدات باللجين كأنما     أعجازهن أقاوز الكثبان

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنهم الباقون على صغرهم لا يموتون ولا يتغيرون، قاله الحسن ، ومنه قول امرئ القيس


                                                                                                                                                                                                                                        وهل ينعمن إلا سعيد مخلد     قليل الهموم ما يبيت بأوجال

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 451 ] ويحتمل ثالثا: أنهم الباقون معهم لا يبصرون عليهم ولا ينصرفون عنهم بخلافهم في الدنيا. بأكواب وأباريق فيهما قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أن الأكواب التي ليس لها عرى ، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أن الأكواب مدورة الأفواه ، والأباريق التي يغترف بها، قاله قتادة ، قال الشاعر


                                                                                                                                                                                                                                        فعدوا علي بقرقف     ينصب من أكوابها

                                                                                                                                                                                                                                        وكأس من معين والكأس اسم للإناء إذا كان فيه شراب ، والمعين الجاري من ماء أو خمر ، غير أن المراد به في هذا الموضوع الخمر ، وصف الخمر بأنه الجاري من عينه بغير عصر كالماء المعين. لا يصدعون عنها فيه ثلاثة أقاويل:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: معناه لا يمنعون منها، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: لا يفرقون عنها ، حكاه ابن قتيبة ، واستشهد عليه بقول الراجز:

                                                                                                                                                                                                                                        صد عنه فانصدع.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: لا ينالهم من شربها وجع الرأس وهو الصداع ، قاله ابن جبير، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي . وفي قوله تعالى: ولا ينزفون أربعة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: لا تنزف عقولهم فيسكرون ، قاله ابن زيد، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: لا يملون، قاله عكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: لا يتقيئون، قاله يحيى بن وثاب.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: وهو تأويل من قرأ بكسر الزاي لا يفنى خمرهم ، ومنه قول الأبيرد


                                                                                                                                                                                                                                        لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم     لبئس الندامى أنتم آل أبجرا

                                                                                                                                                                                                                                        وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السكر، [ ص: 452 ] والصداع، والقيء، والبول، وقد ذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. وحور عين والحور البيض سمين لبياضهن ، وفي العين وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنهن كبار الأعين ، كما قال الشاعر


                                                                                                                                                                                                                                        إذا كبرت عيون من النساء     ومن غير النساء فهن عين

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنهن اللاتي سواد أعينهن حالك ، وبياض أعينهن نقي ، كما قال الشاعر


                                                                                                                                                                                                                                        إذا ما العين كان بها احورار     علامتها البياض على السواد

                                                                                                                                                                                                                                        كأمثال اللؤلؤ المكنون فيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: في نضارتها وصفاء ألوانها.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنهن كأمثال اللؤلؤ في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن ، كما قال الشاعر


                                                                                                                                                                                                                                        كأنما خلقت في قشر لؤلؤة     فكل أكنافها وجه لمرصاد

                                                                                                                                                                                                                                        لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما فيه ثلاثة تأويلات:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: لا يسمعون في الجنة باطلا ولا كذبا ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: لا يسمعون فيها خلفا ، أي لا يتخالفون عليها كما يتخالفون في الدنيا ، ولا يأثمون بشربها ، كما يأثمون في الدنيا ، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: لا يسمعون فيها شتما ولا مأثما ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        يحتمل رابعا: لا يسمعون مانعا لهم منها ، ولا مشنعا لهم على شربها. إلا قيلا سلاما سلاما فيه ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: لكن يسمعون قولا سارا وكلاما حسنا.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: لكن يتداعون بالسلام على حسن الأدب وكريم الأخلاق.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: يعني قولا يؤدي إلى السلامة.

                                                                                                                                                                                                                                        ويحتمل رابعا: أن يقال لهم هنيئا.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية