الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر خلافة المقتدر بالله

وكان السبب في ولاية المقتدر بالله الخلافة ، وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد ، أن المكتفي لما ثقل في مرضه أفكر الوزير حينئذ ، وهو العباس بن الحسن ، فيمن يصلح للخلافة ، وكان عادته أن يسايره ، إذا ركب إلى دار الخلافة ، واحد من هؤلاء الأربعة الذين يتولون الدواوين ، وهم : أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح ، وأبو الحسن محمد بن عبدان ، وأبو الحسن علي بن محمد بن الفرات ، وأبو الحسن علي بن عيسى ، فاستشار الوزير يوما محمد بن داود بن الجراح في ذلك ، فأشار بعبد الله بن المعتز ، ووصفه بالعقل والأدب والرأي ، واستشار بعده أبا الحسن بن الفرات ، فقال : هذا شيء ما جرت به عادتي أشير فيه ، وإنما أشاور في العمال لا في الخلفاء ، فغضب الوزير وقال : هذه مقاطعة باردة ، وليس يخفى عليك الصحيح .

وألح عليه ، فقال : إن كان رأي الوزير قد استقر على أحد يعينه فليفعل ، فعلم أنه عنى ابن المعتز لاشتهار خبره ، فقال الوزير : لا أقنع إلا أن تمحضني النصيحة . فقال ابن الفرات : فليتق الله الوزير ، ولا ينصب إلا من قد عرفه ، واطلع على جميع أحواله ، ولا ينصب بخيلا فيضيق على الناس ويقطع أرزاقهم ، ولا طماعا فيشره في أموالهم ، فيصادرهم ويأخذ أموالهم وأملاكهم ، ولا قليل الدين فلا يخاف العقوبة والآثام ، ويرجو الثواب فيما يفعله ، ولا يول من عرف نعمة هذا ، وبستان هذا ، وضيعة

[ ص: 564 ] هذا ، وفرس هذا ، ومن قد لقي الناس ولقوه ، وعاملهم وعاملوه ، ويتخيل ، ويحسب حساب نعم الناس ، وعرف وجوه دخلهم وخرجهم .

فقال الوزير : صدقت ونصحت ، فبمن تشير ؟ قال : أصلح الموجود جعفر بن المعتضد ، قال : ويحك ، هو صبي ، قال ابن الفرات : إلا أنه ابن المعتضد ، ولم نأت برجل كامل يباشر الأمور بنفسه ، غير محتاج إلينا .

ثم إن الوزير استشار علي بن عيسى ، فلم يسم أحدا ، وقال : لكن ينبغي أن يتقي الله ، وينظر من يصلح للدين والدنيا ، فمالت نفس الوزير إلى ما أشار إليه به ابن الفرات ، وانضاف إلى ذلك وصية المكتفي ، فإنه أوصى ، لما اشتد مرضه ، بتقليد أخيه جعفر الخلافة ،

فلما مات المكتفي نصب الوزير جعفرا للخلافة ، وعينه لها ، وأرسل صافيا الحرمي إليه ليحذره من دور آل طاهر بالجانب الغربي وكان يسكنها ، فلما حطه في الحراقة وحدره ، وصارت الحراقة مقابل دار الوزير ، صاح غلمان الوزير بالملاح ليدخل إلى دار الوزير ، فظن صافي الحرمي أن الوزير يريد القبض على جعفر ، وينصب في الخلافة غيره ، فمنع الملاح من ذلك ، وسار إلى دار الخلافة ، وأخذ له صافي البيعة على الخدم ، وحاشية الدار ، ولقب نفسه المقتدر بالله ، ولحق الوزير به وجماعة الكتاب فبايعوه ، ثم جهزوا المكتفي ودفنوه بدار محمد بن طاهر .

[ ص: 565 ] ولما بويع المقتدر كان في بيت المال ، حين بويع ، خمسة عشر ألف ( ألف ) دينار ، فأطلق يد الوزير في بيت المال فأخرج منه حق البيعة .

وكان مولد المقتدر ثامن رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين ، وأمه أم ولد يقال لها شغب ، فلما بويع استصغره الوزير ، وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة ، وكثر كلام الناس ( فيه ) ، فعزم على خلعه ، وتقليد الخلافة أبا عبد الله محمد بن المعتمد على الله ، وكان حسن السيرة ، ( جميل الوجه ) والفعل ، فراسله في ذلك ، واستقر الحال ، وانتظر الوزير قدوم بارس حاجب إسماعيل صاحب خراسان ، وكان قد أذن له في القدوم ، كما ذكرناه ، وأراد الوزير [ أن ] يستعين به على ذلك ، ويتقوى به على غلمان المعتضد ، فتأخر بارس .

واتفق أنه وقع بين أبي عبد الله بن المعتمد وبين ابن عمرويه ، صاحب الشرطة ، ( منازعة ) في ضيعة مشتركة بينهما ، فأغلظ ابن عمرويه ، فغضب ابن المعتمد غضبا شديدا ، وأغمي عليه ، وفلج في المجلس ، فحمل إلى ثيته في محفة ، فمات في اليوم الثاني ، فأراد الوزير البيعة لأبي الحسين بن المتوكل ، فمات أيضا بعد

[ ص: 566 ] خمسة أيام ، وتم أمر المقتدر .

التالي السابق


الخدمات العلمية