الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم إن الناظم رحمه الله تعالى نبه على بعض فوائد السلام فقال : وإفشاؤك التسليم يوجب محبة من الناس معروفا ومجهولا اقصد ( وإفشاؤك ) أي : نشرك وإذاعتك التسليم ، مصدر سلم تسليما وسلاما ( يوجب ) أي يلزم ويحقق ( محبة ) والموجبة الكبيرة من الحسنات أو السيئات التي توجب الجنة أو النار .

والمحبة أصلها الصفاء ; لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان . وقيل : مأخوذة من الحباب وهو ما يعلو الماء عند المطر الشديد ، فهي غليان القلب وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب . وقيل : مشتقة من اللزوم والثبات ، يقال أحب البعير إذا برك فلم يقم ، كقول الشاعر :

    خلت عليه بالفلاة ضربا
ضرب بعير السوء إذ أحبا

فكأن المحب قد لزم قلبه محبوبه فلم يرم عنه انتقالا . وقيل مأخوذة من القلق والاضطراب ، ومنه سمي القرط حبا لقلقه في الأذن واضطرابه . قال الشاعر : [ ص: 293 ]

تبيت الحبة التنضاض منه     مكان الحب يستمع السرارا

أراد بالحب القرط . وقيل مأخوذة من الحب جمع حبة وهو لباب الشيء وخالصه وأصله ، فإن الحب أصل النبات والشجر . وقيل مأخوذة من الحب ، وهو الإناء الواسع المعروف يوضع فيه الشيء فيمتلئ بحيث لا يسع غيره ، وكذالك قلب المحب لا يسع غير محبوبه . وقيل من الحب ، وهو الخشبات الأربع التي يستقر عليها ما يوضع عليها من جرة وغيرها فسمي الحب بذلك ; لأن المحب يتحمل لأجل محبوبه الأثقال كما تتحمل الخشبات ثقل ما يوضع عليها . وقيل مأخوذة من حبة القلب وهي سويداؤه ، ويقال ثمرته ، سميت بذلك لوصولها إلى حبة القلب ، وفيها لغتان : حب وأحب .

واختلفوا في حد المحبة على أقوال كثيرة ، فقيل هي الميل الدائم ، بالقلب الهائم .

وقيل إيثار المحبوب ، على كل مصحوب .

وقيل موافقة الحبيب في المشهد والمغيب .

وقيل إقامة الخدمة ، مع القيام بالحرمة ، إلى غير ذلك من الأقوال .

وقد قدمنا أن شأن المحبة عظيم ومدار حركات العالم العلوي والسفلي عليها .

وقد نبه الناظم رحمه الله تعالى أن السلام من موجباتها .

وتقدم حديث أبي هريرة مرفوعا { والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم } .

وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعا { ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين } وقال الشاعر :

قد يمكث الناس دهرا ليس بينهمو     ود فيزرعه التسليم واللطف

وقول الناظم ( من الناس ) متعلق ب { يوجب محبة } يعني يوقعها ويغرسها في قلوبهم للخبر .

وقوله رحمه الله ( معروفا ) مفعول مقدم ( ومجهولا ) معطوف عليه وقوله ( اقصد ) فعل أمر مبني على السكون وحرك بالكسر للقافية ، أي اقصد بسلامك كل إنسان سواء كان معروفا لك أو مجهولا عندك لا تعرفه .

وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم { وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف } .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إن من التواضع أن تسلم على من لقيت .

[ ص: 294 ] قال في الآداب الكبرى : ولعل المراد من السلام على من عرف ومن لم يعرف أنه يكثر منه ويفشيه ويشيعه ، لا أنه يسلم على كل من رآه ، فإن هذا في السوق ونحوه يستهجن عادة وعرفا .

ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بمثل هذه المحافظة والمواظبة عليه لشاع وتواتر ونقله الجم الغفير خلفا من سلف . انتهى .

كذا قال .

وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يغدو إلى السوق فلا يمر بأحد إلا سلم عليه ، فقال له الطفيل بن أبي كعب ما تصنع في السوق ، وأنت لا تقف على البيع ، ولا تسأل عن السلع ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس السوق ؟ فقال يا أبا بطن - وكان الطفيل ذا بطن - إنما نغدوا من أجل السلام نسلم على من لقينا . رواه مالك في الموطأ .

لكن مراد الشيخ رضي الله عنه أن السلام على كل فرد من مجامع الناس كالأسواق والمواسم والحجيج ونحوها مستهجن عرفا وعادة وهو كذلك .

ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر في شرح البخاري عن الماوردي من الشافعية أن من مشى في الشوارع المطروقة كالسوق أنه لا يسلم إلا على البعض ; لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به عن المهم الذي خرج لأجله ، ولخرج به عن العرف .

قال الحافظ : ولا يعكر على هذا ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وذكر خبر ابن عمر قال : لأن مراد الماوردي من خرج في حاجة له فتشاغل عنها بما ذكر ، والأثر المذكور ظاهر بأنه خرج لقصد تحصيل ثواب السلام انتهى . والله الموفق .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا { من أشراط الساعة السلام للمعرفة } ذكره ابن بطال في شرح البخاري .

التالي السابق


الخدمات العلمية