الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 174 ] الحديث الحادي والثلاثون .

عن سهل بن سعد الساعدي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله ، وأحبني الناس ، فقال : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس . حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة .

التالي السابق


هذا الحديث خرجه ابن ماجه من رواية خالد بن عمرو القرشي ، عن سفيان الثوري ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن إسناده حسن ، وفي ذلك نظر ، فإن خالد بن عمرو القرشي الأموي قال فيه الإمام أحمد : منكر الحديث ، وقال مرة : ليس بثقة ، يروي أحاديث بواطيل ، وقال ابن معين : ليس حديثه بشيء ، وقال مرة : كان كذابا يكذب ، حدث عن شعبة [ ص: 175 ] أحاديث موضوعة ، وقال البخاري وأبو زرعة : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : متروك الحديث ضعيف ، ونسبه صالح بن محمد ، وابن عدي إلى وضع الحديث ، وتناقض ابن حبان في أمره ، فذكره في كتاب " الثقات " وذكره في كتاب " الضعفاء " وقال : كان ينفرد عن الثقات بالموضوعات ، لا يحل الاحتجاج بخبره ، وخرج العقيلي حديثه هذا وقال : ليس له أصل من حديث سفيان الثوري ، قال : وقد تابع خالدا عليه محمد بن كثير الصنعاني ، ولعله أخذه عنه ودلسه ، لأن المشهور به خالد هذا .

قال أبو بكر الخطيب : وتابعه أيضا أبو قتادة الحراني ومهران بن أبي عمر الرازي ، فرووه عن الثوري قال : وأشهرها حديث ابن كثير . كذا قال ، وهذا يخالف قول العقيلي : إن أشهرها حديث خالد بن عمرو ، وهذا أصح ، ومحمد بن كثير الصنعاني هو المصيصي ، ضعفه أحمد . وأبو قتادة ومهران تكلم فيهما أيضا ، لكن محمد بن كثير خير منهما ، فإنه ثقة عند كثير من الحفاظ .

وقد تعجب ابن عدي من حديثه هذا ، وقال ما أدري ما أقول فيه .

وذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عن حديث محمد بن كثير عن سفيان الثوري ، فذكر هذا الحديث ، فقال : هذا حديث باطل ، يعني بهذا الإسناد ، يشير إلى أنه لا أصل له عن محمد بن كثير عن سفيان .

وقال ابن مشيش : سألت أحمد عن حديث سهل بن سعد ، فذكر هذا الحديث ، فقال أحمد : لا إله إلا الله - تعجبا منه - من يروي هذا ؟ قلت : [ ص: 176 ] خالد بن عمرو ، فقال : وقعنا في خالد بن عمرو ، ثم سكت ، ومراده الإنكار على من ذكر له شيئا من حديث خالد هذا ، فإنه لا يشتغل به .

وخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " المواعظ " له عن خالد بن عمرو ، ثم قال : كنت منكرا لهذا الحديث ، فحدثني هذا الشيخ يعني عن وكيع : أنه سأله عنه ، ولولا مقالته هذه لتركته . وخرج ابن عدي هذا الحديث في ترجمة خالد بن عمرو ، وذكر رواية محمد بن كثير له أيضا ، وقال : هذا الحديث عن الثوري منكر ، وقال : ورواه زافر - يعني ابن سلمان - عن محمد بن عيينة أخي سفيان ، عن أبي حازم ، عن ابن عمر . انتهى ، وزافر ومحمد بن عيينة ، كلاهما ضعيف .

وقد روي هذا الحديث من وجه آخر مرسل : أخرجه أبو سليمان بن زبر الدمشقي في " مسند " إبراهيم بن أدهم من جمعه من رواية معاوية بن حفص ، عن إبراهيم بن أدهم ، عن منصور ، عن ربعي بن حراش ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، دلني على عمل يحبني الله عليه ، ويحبني الناس عليه ، فقال : أما العمل الذي يحبك الله عليه ، فازهد في الدنيا ، وأما العمل الذي يحبك الناس عليه ، فانظر هذا الحطام ، فانبذه إليهم .

[ ص: 177 ] وخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذم الدنيا " من رواية علي بن بكار عن إبراهيم بن أدهم ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره ، ولم يذكر في إسناده منصورا ولا ربعيا ، وقال في حديثه : فانبذ إليهم ما في يديك من الحطام .

وقد اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين : إحداهما : الزهد في الدنيا ، وأنه مقتض لمحبة الله عز وجل لعبده . والثانية : الزهد فيما في أيدي الناس ، فإنه مقتض لمحبة الناس .

فأما الزهد في الدنيا ، فقد كثر في القرآن الإشارة إلى مدحه ، وإلى ذم الرغبة في الدنيا ، قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ الأعلى : 17 ] ، وقال تعالى : تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة [ الأنفال : 67 ] وقال تعالى في قصة قارون : فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون إلى قوله : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [ القصص : 79 - 83 ] ، وقال تعالى : وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع [ الرعد : 26 ] وقال قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا [ النساء : 77 ] .

وقال حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه : [ ص: 178 ] ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [ غافر : 38 - 39 ] .

وقد ذم الله من كان يريد الدنيا بعمله وسعيه ونيته ، وقد سبق ذكر ذلك في الكلام على حديث " الأعمال بالنيات " .

والأحاديث في ذم الدنيا وحقارتها عند الله كثيرة جدا ، ففي " صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفيه ، فمر بجدي أسك ميت ، فتناوله ، فأخذ بأذنه ، فقال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء ، وما نصنع به ؟ قال : أتحبون أنه لكم ؟ قالوا : والله لو كان حيا كان عيبا فيه ، لأنه أسك ، فكيف وهو ميت ؟ فقال : والله ، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم .

وفيه أيضا عن المستورد الفهري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بماذا ترجع .

وخرج الترمذي من حديث سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافرا منها شربة ماء صححه .

[ ص: 179 ] ومعنى الزهد في الشيء : الإعراض عنه لاستقلاله ، واحتقاره ، وارتفاع الهمة عنه ، يقال : شيء زهيد ، أي : قليل حقير .

وقد تكلم السلف ومن بعدهم في تفسير الزهد في الدنيا ، وتنوعت عباراتهم عنه ، وورد في ذلك حديث مرفوع خرجه الترمذي وابن ماجه من رواية عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك . وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وعمرو بن واقد منكر الحديث .

قلت : الصحيح وقفه ، كما رواه الإمام أحمد في كتاب " الزهد " ، حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا خالد بن صبيح ، حدثنا يونس بن حلبس قال : قال أبو مسلم الخولاني : ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك ، وإذا أصبت بمصيبة ، كنت أشد رجاء لأجرها وذخرها من إياها لو بقيت لك .

وخرجه ابن أبي الدنيا من راوية محمد بن مهاجر ، عن يونس بن ميسرة ، قال : ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأن تكون حالك في [ ص: 180 ] المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء ، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء .

ففسر الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب ، لا من أعمال الجوارح ، ولهذا كان أبو سليمان يقول : لا تشهد لأحد بالزهد ، فإن الزهد في القلب .

أحدها : أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه ، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته ، فإن الله ضمن أرزاق عباده ، وتكفل بها ، كما قال : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود : 6 ] ، وقال : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] ، وقال : فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه [ العنكبوت : 17 ] .

وقال الحسن : إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل .

وروي عن ابن مسعود قال : إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا ليس في البيت دقيق . وقال مسروق : إن أحسن ما أكون ظنا حين يقول الخادم : ليس في البيت قفيز من قمح ولا درهم . وقال الإمام أحمد : أسر أيامي إلي يوم أصبح وليس عندي شيء .

وقيل لأبي حازم الزاهد : ما مالك ؟ قال : لي مالان لا أخشى معهما الفقر : الثقة بالله ، واليأس مما في أيدي الناس .

وقيل له : أما تخاف الفقر ؟ فقال : أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ؟ !

[ ص: 181 ] ودفع إلى علي بن الموفق ورقة ، فقرأها فإذا فيها : يا علي بن الموفق أتخاف الفقر وأنا ربك ؟ .

وقال الفضيل بن عياض : أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل . وقال : القنوع هو الزاهد وهو الغني .

فمن حقق اليقين ، وثق بالله في أموره كلها ، ورضي بتدبيره له ، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا ، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة ، ومن كان كذلك كان زاهدا في الدنيا حقيقة ، وكان من أغنى الناس ، وإن لم يكن له شيء من الدنيا كما قال عمار : كفى بالموت واعظا ، وكفى باليقين غنى ، وكفى بالعبادة شغلا .

وقال ابن مسعود : اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله ، ولا تحمد أحدا على رزق الله ، ولا تلم أحدا على ما لم يؤتك الله ، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ، ولا يرده كراهة كاره ، فإن الله تبارك وتعالى - بقسطه وعلمه وحكمه - جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .

وفي حديث مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا [ صادقا ] حتى أعلم أنه لا يمنعني رزقا قسمته لي ، ورضني من المعيشة بما قسمت لي .

وكان عطاء الخراساني لا يقوم من مجلسه حتى يقول : اللهم هب لنا يقينا منك حتى تهون علينا مصائب الدنيا ، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت [ ص: 182 ] علينا ، ولا يصيبنا من الرزق إلا ما قسمت لنا .

روينا من حديث ابن عباس مرفوعا ، قال : من سره أن يكون أغنى الناس ، فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده .

والثاني : أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال ، أو ولد أو غير ذلك - أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له ، وهذا أيضا ينشأ من كمال اليقين .

وقد روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا وهو من علامات الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها ، كما قال علي رضي الله عنه : من زهد الدنيا ، هانت عليه المصيبات .

والثالث : أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق ، وهذا من علامات الزهد في الدنيا ، واحتقارها ، وقلة الرغبة فيها ، فإن من عظمت الدنيا عنده أحب [ ص: 183 ] المدح وكره الذم ، فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم ، وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح ، فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق ، دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه ، وامتلائه من محبة الحق ، وما فيه رضا مولاه ، كما قال ابن مسعود : اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله . وقد مدح الله الذين يجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم .

وقد روي عن السلف عبارات أخر في تفسير الزهد في الدنيا ، وكلها ترجع إلى ما تقدم ، كقول الحسن : الزاهد الذي إذا رأى أحدا قال : هو أفضل مني ، وهذا يرجع إلى أن الزاهد حقيقة هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها ، ولهذا يقال : الزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة ، فمن أخرج من قلبه حب الرياسة في الدنيا والترفع فيها على الناس ، فهو الزاهد حقا ، وهذا هو الذي يستوي عنده حامده وذامه في الحق ، وكقول وهيب بن الورد : الزهد في الدنيا أن لا تأسى على ما فات منها ، ولا تفرح بما آتاك منها ، قال ابن السماك : هذا هو الزاهد المبرز في زهده .

وهذا يرجع إلى أنه يستوي عند العبد إدبارها وإقبالها وزيادتها ونقصها ، وهو مثل استواء حال المصيبة وعدمها كما سبق .

وسئل بعضهم - أظنه الإمام أحمد - عمن معه مال ، هل يكون زاهدا ؟ قال : إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه ، أو كما قال .

وسئل الزهري عن الزاهد فقال : من لم يغلب الحرام صبره ، ولم يشغل الحلال شكره ، وهذا قريب مما قبله ، فإن معناه أن الزاهد في الدنيا إذا قدر [ ص: 184 ] منها على حرام ، صبر عنه ، فلم يأخذه ، وإذا حصل له منها حلال ، لم يشغله عن الشكر ، بل قام بشكر الله عليه .

وقال أحمد بن أبي الحوارى : قلت لسفيان بن عيينة : من الزاهد في الدنيا ؟ قال : من إذا أنعم عليه شكر ، وإذا ابتلي صبر ، فقلت : يا أبا محمد قد أنعم عليه فشكر ، وإذا ابتلي فصبر ، وحبس النعمة ، كيف يكون زاهدا ؟ فقال : اسكت ، من لم تمنعه النعماء من الشكر ، ولا البلوى من الصبر ، فذلك الزاهد .

وقال ربيعة : رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها ، ووضعها في حقها .

وقال سفيان الثوري : الزهد في الدنيا قصر الأمل ، ليس بأكل الغليظ ، ولا بلبس العباء . وقال : كان من دعائهم : اللهم زهدنا في الدنيا ، ووسع علينا منها ، ولا تزوها عنا ، فترغبنا فيها . وكذا قال الإمام أحمد : الزهد في الدنيا : قصر الأمل ، وقال مرة : قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس .

ووجه هذا أن قصر الأمل يوجب محبة لقاء الله ، بالخروج من الدنيا ، وطول الأمل يقتضي محبة البقاء فيها ، فمن قصر أمله ، فقد كره البقاء في الدنيا ، وهذا نهاية الزهد فيها ، والإعراض عنها ، واستدل ابن عيينة لهذا القول بقوله تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين إلى قوله : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة [ البقرة : 94 - 96 ] الآية .

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الضحاك بن مزاحم قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله ، من أزهد الناس ؟ فقال : من لم ينس القبر والبلى ، وترك زينة الدنيا ، وآثر ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعد غدا من أيامه وعد [ ص: 185 ] نفسه من الموتى وهذا مرسل .

وقد قسم كثير من السلف الزهد أقساما : فمنهم من قال : أفضل الزهد الزهد في الشرك ، وفي عبادة ما عبد من دون الله ، ثم الزهد في الحرام كله من المعاصي ، ثم الزهد في الحلال ، وهو أقل أقسام الزهد ، فالقسمان الأولان من هذا الزهد ، كلاهما واجب ، والثالث : ليس بواجب ، فإن أعظم الواجبات الزهد في الشرك ، ثم في المعاصي كلها . وكان بكر المزني يدعو لإخوانه : زهدنا الله وإياكم زهد من أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات ، فعلم أن الله يراه فتركه .

وقال ابن المبارك : قال سلام بن أبي مطيع : الزهد على ثلاثة وجوه : واحد أن يخلص العمل لله عز وجل والقول ، ولا يراد بشيء منه الدنيا ، والثاني : ترك ما لا يصلح ، والعمل بما يصلح ، والثالث : الحلال أن يزهد فيه وهو تطوع ، وهو أدناها .

وهذا قريب مما قبله ، إلا أنه جعل الدرجة الأولى من الزهد الزهد في الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل ، وهو الشرك الأصغر ، والحامل عليه محبة المدح في الدنيا ، والتقدم عند أهلها ، وهو من نوع محبة العلو فيها والرياسة .

وقال إبراهيم بن أدهم : الزهد ثلاثة أصناف : فزهد فرض ، وزهد فضل ، وزهد سلامة ، فالزهد الفرض : الزهد في الحرام ، والزهد الفضل : الزهد في الحلال ، والزهد السلامة : الزهد في الشبهات .



وقد اختلف الناس : هل يستحق اسم الزاهد من زهد في الحرام خاصة ، [ ص: 186 ] ولم يزهد في فضول المباحات أم لا ؟ على قولين : أحدهما : أنه يستحق اسم الزهد بذلك ، وقد سبق ذلك عن الزهري وابن عيينة وغيرهما .

والثاني : لا يستحق اسم الزهد بدون الزهد في فضول المباح ، وهو قول طائفة من العلماء العارفين وغيرهم ، حتى قال بعضهم : لا زهد اليوم لفقد المباح المحض ، وهو قول يوسف بن أسباط وغيره ، وفي ذلك نظر . وكان يونس بن عبيد يقول : وما قدر الدنيا حتى يمدح من زهد فيها ؟ وقال أبو سليمان الداراني : اختلفوا علينا في الزهد بالعراق ، فمنهم من قال : الزهد في ترك لقاء الناس ، ومنهم من قال : في ترك الشهوات ، ومنهم من قال : في ترك الشبع ، وكلامهم قريب بعضه من بعض ، قال : وأنا أذهب إلى أن الزهد في ترك ما يشغلك عن الله عز وجل ، وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن ، وهو يجمع جميع معاني الزهد وأقسامه وأنواعه .

واعلم أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعا إلى زمانها الذي هو الليل والنهار ، المتعاقبان إلى يوم القيامة ، فإن الله جعلهما خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا . ويروى عن عيسى عليه السلام أنه قال : إن هذا الليل والنهار خزانتان ، فانظروا ما تصنعون فيهما . وكان يقول : اعملوا الليل لما خلق له ، والنهار لما خلق له .

وقال مجاهد : ما من يوم إلا يقول : ابن آدم قد دخلت عليك اليوم ، ولن أرجع إليك بعد اليوم ، فانظر ماذا تعمل في ، فإذا انقضى طوي ، ثم يختم عليه ، فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يفضه يوم القيامة ، ولا ليلة إلا تقول [ ص: 187 ] كذلك ، وقد أنشد بعض السلف :


إنما الدنيا إلى الجنـ ـة والنار طريق     والليالي متجر الإنـ
ـسان والأيام سوق



وليس الذم راجعا إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهادا وسكنا ، ولا إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن ، ولا إلى ما أنبته فيها من الشجر والزرع ، ولا إلى ما بث فيها من الحيوانات وغير ذلك ، فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع ، ولهم به من الاعتبار والاستدلال على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته ، وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا ؛ لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته ، بل يقع على ما تضر عاقبته ، أو لا تنفع كما قال عز وجل : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد [ الحديد : 20 ] .

وانقسم بنو آدم في الدنيا إلى قسمين : أحدهما : من أنكر أن يكون للعباد بعد الدنيا دار للثواب والعقاب ، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون [ يونس : 7 ] ، وهؤلاء همهم التمتع بالدنيا ، واغتنام لذاتها قبل الموت ، كما قال تعالى : والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم [ محمد : 12 ] 0 ومن هؤلاء من كان يأمر بالزهد في الدنيا ، لأنه يرى أن الاستكثار منها موجب الهم والغم ، ويقول : كلما كثر التعلق بها ، تألمت النفس بمفارقتها عند الموت ، فكان هذا غاية زهدهم في الدنيا .

[ ص: 188 ] والقسم الثاني : من يقر بدار بعد الموت للثواب والعقاب ، وهم المنتسبون إلى شرائع المرسلين ، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام : ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخيرات بإذن الله ، فالظالم لنفسه : هم الأكثرون منهم ، وأكثرهم وقف مع زهرة الدنيا وزينتها ، فأخذها من غير وجهها ، واستعملها في غير وجهها ، وصارت الدنيا أكبر همه ، لها يغضب ، وبها يرضى ، ولها يوالي ، وعليها يعادي ، وهؤلاء هم أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر ، وكلهم لم يعرف المقصود من الدنيا ، ولا أنها منزل سفر يتزود منها لما بعدها من دار الإقامة ، وإن كان أحدهم يؤمن بذلك إيمانا مجملا ، فهو لا يعرفه مفصلا ، ولا ذاق ما ذاقه أهل المعرفة بالله في الدنيا مما هو أنموذج ما ادخر لهم في الآخرة .

والمقتصد منهم أخذ الدنيا من وجوهها المباحة ، وأدى واجباتها ، وأمسك لنفسه الزائد على الواجب ، يتوسع به في التمتع بشهوات الدنيا ، وهؤلاء قد اختلف في دخولهم في اسم الزهادة في الدنيا كما سبق ذكره ، ولا عقاب عليهم في ذلك ، إلا أنه ينقص من درجاتهم في الآخرة بقدر توسعهم في الدنيا . قال ابن عمر : لا يصيب عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله ، وإن كان عليه كريما ، خرجه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد . وروي مرفوعا من حديث عائشة بإسناد فيه نظر .

وروى الإمام أحمد في كتاب " الزهد " بإسناده : أن رجلا دخل على معاوية ، فكساه ، فخرج فمر على أبي مسعود الأنصاري ورجل آخر من الصحابة ، فقال أحدهما له : خذها من حسناتك ، وقال الآخر : خذها من طيباتك .

[ ص: 189 ] وبإسناده عن عمر قال : لولا أن تنقص حسناتي لخالطتكم في لين عيشكم ، ولكني سمعت الله عير قوما فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها [ الأحقاف : 20 ] .

وقال الفضيل بن عياض : إن شئت استقل من الدنيا ، وإن شئت استكثر منها ، فإنما تأخذ من كيسك .

ويشهد لهذا أن الله عز وجل حرم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتها وبهجتها ، حيث لم يكونوا محتاجين إليه ، وادخره لهم عنده في الآخرة ، وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج إلى قوله : وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين [ الزخرف : 33 - 35 ] .

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، و من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة . وقال : لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافهما ، فإنها لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة .

وقال وهب : إن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام : إني لأذود أوليائي عن [ ص: 190 ] نعيم الدنيا ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك العرة ، وما ذلك لهوانهم علي ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا .

ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن قتادة بن النعمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله إذا أحب عبدا حماه عن الدينا ، كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء ، وخرجه الحاكم ، ولفظه : إن الله ليحمي عبده من الدنيا وهو يحبه ، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب ، تخافون عليه .

وفي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر .

وأما السابق بالخيرات بإذن الله فهم الذين فهموا المراد من الدنيا ، وعملوا بمقتضى ذلك ، فعلموا أن الله إنما أسكن عباده في هذه الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملا ؟ كما قال : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ هود : 7 ] ، وقال : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] .

قال بعض السلف : أيهم أزهد في الدنيا ، وأرغب في الآخرة ، وجعل ما في الدنيا من البهجة والنضرة محنة ، لينظر من يقف منهم معه ، ويركن إليه ، ومن ليس كذلك ، كما قال تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ ص: 191 ] [ الكهف : 7 ] ثم بين انقطاعه ونفاده فقال : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ الكهف : 8 ] ، فلما فهموا أن هذا هو المقصود من الدنيا ، جعلوا همهم التزود منها للآخرة التي هي دار القرار ، واكتفوا من الدنيا بما يكتفي به المسافر في سفره ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما لي وللدنيا ، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ، ثم راح وتركها .

ووصى صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة أن يكون بلاغ أحدهم من الدنيا كزاد الراكب منهم سلمان ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وأبو ذر ، وعائشة ، ووصى ابن عمر أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل ، وأن يعد نفسه من أهل القبور .

[ ص: 192 ] وأهل هذه الدرجة على قسمين : منهم من يقتصر من الدنيا على قدر ما يسد الرمق فقط ، وهو حال كثير من الزهاد . ومنهم من يفسح لنفسه أحيانا في تناول بعض شهواتها المباحة ، لتقوى النفس بذلك ، وتنشط للعمل ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة خرجه الإمام أحمد والنسائي من حديث أنس .

وخرج الإمام أحمد من حديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب من الدنيا النساء والطيب والطعام ، فأصاب من النساء والطيب ، ولم يصب من الطعام .

قال وهب : مكتوب في حكمة آل داود عليه السلام : ينبغي للعاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات : ساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يلقى فيها إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه ، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل ، فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات ، وفضل بلغة واستجماما للقلوب ، يعني ترويحا لها .

ومتى نوى المؤمن بتناول شهواته المباحة التقوي على الطاعة كانت شهواته له طاعة يثاب عليها ، كما قال معاذ بن جبل : إني لأحتسب نومتي كما أحتسب [ ص: 193 ] قومتي ، يعني : أنه ينوي بنومه التقوي على القيام في آخر الليل ، فيحتسب ثواب نومه كما يحتسب ثواب قيامه .

وكان بعضهم إذا تناول شيئا من شهواته المباحة واسى منها إخوانه ، كما روي عن ابن المبارك أنه كان إذا اشتهى شيئا لم يأكله حتى يشتهيه بعض أصحابه ، فيأكله معهم ، وكان إذا اشتهى شيئا ، دعا ضيفا له ليأكل معه .

وكان يذكر عن الأوزاعي أنه قال : ثلاثة لا حساب عليهم في مطعمهم : المتسحر ، والصائم حين يفطر ، وطعام الضيف .

وقال الحسن : ليس من حبك الدنيا طلبك ما يصلحك فيها ، ومن زهدك فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها ، ومن أحب الدنيا وسرته ، ذهب خوف الآخرة من قلبه .

وقال سعيد بن جبير : متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة ، وما لم يلهك ، فليس بمتاع الغرور ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه .

وقال يحيى بن معاذ الرازي : كيف لا أحب دنيا قدر لي فيها قوت أكتسب بها حياة أدرك بها طاعة أنال بها الآخرة .

وسئل أبو صفوان الرعيني - وكان من العارفين - : ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن التي ينبغي للعاقل أن يتجنبها ؟ فقال : كل ما أصبت في الدنيا تريد به الدنيا ، فهو مذموم ، وكل ما أصبت فيها تريد به الآخرة ، فليس منها .

وقال الحسن : نعمت الدار كانت الدنيا للمؤمن ، وذلك أنه عمل قليلا ، وأخذ زاده منها إلى الجنة ، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق ، وذلك أنه ضيع لياليه ، وكان زاده منها إلى النار .

وقال أيفع بن عبد الكلاعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، قال الله : يا أهل الجنة ، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ [ ص: 194 ] قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ، قال : نعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ، رحمتي ورضواني وجنتي ، امكثوا فيها خالدين مخلدين ، ثم يقول لأهل النار : كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، فيقول بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ، سخطي ومعصيتي وناري ، امكثوا فيها خالدين مخلدين .

وخرج الحاكم من حديث عبد الجبار بن وهب ، أنبأنا سعد بن طارق ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته حتى يرضي ربه ، وبئست الدار لمن صدته عن آخرته وقصرت به عن رضا ربه ، وإذا قال العبد : قبح الله الدنيا ، قالت الدنيا : قبح الله أعصانا لربه وقال : صحيح الإسناد ، وخرجه العقيلي ، وقال : عبد الجبار بن وهب مجهول وحديثه غير محفوظ ، قال : وهذا الكلام يروى عن علي من قوله .

وقول علي خرجه ابن أبي الدنيا عنه بإسناد فيه نظر : أن عليا سمع رجلا يسب الدنيا ، فقال : إنها لدار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، مسجد أحباء الله ، ومهبط وحيه ، ومصلى ملائكته ، ومتجر أوليائه ، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة ، فمن ذا يذم الدنيا وقد آذنت بفراقها ، ونادت بعيبها ، ونعت نفسها وأهلها ، فمثلت ببلائها البلاء [ ص: 195 ] وشوقت بسرورها إلى السرور ، فذمها قوم عند الندامة ، وحمدها آخرون ، حدثتهم فصدقوا ، وذكرتهم فذكروا ؟ فيا أيها المغتر بالدنيا ، المغتر بغرورها ، متى استلامت إليك الدنيا ؟ بل متى غرتك ؟ أبمضاجع آبائك من الثرى ؟ أم بمصارع أمهاتك من البلى ؟ كم قد قلبت بكفيك ، ومرضت بيديك تطلب له الشفاء ، وتسأل له الأطباء ، فلم تظفر بحاجتك ، ولم تسعف بطلبتك ، قد مثلت لك الدنيا بمصرعه مصرعك غدا ، ولا يغني عنك بكاؤك ، ولا ينفعك أحباؤك .

فبين أمير المؤمنين رضي الله عنه أن الدنيا لا تذم مطلقا ، وأنها تحمد بالنسبة إلى من تزود منها الأعمال الصالحة ، وأن فيها مساجد الأنبياء ، ومهبط الوحي ، وهي دار التجارة للمؤمنين ، اكتسبوا منها الرحمة ، وربحوا بها الجنة ، فهي نعم الدار لمن كانت هذه صفته . وأما ما ذكر من أنها تغر وتخدع ، فإنها تنادي بمواعظها ، وتنصح بعبرها ، وتبدي عيوبها بما تري أهلها من مصارع الهلكى ، وتقلب الأحوال من الصحة إلى السقم ، ومن الشبيبة إلى الهرم ، ومن الغنى إلى الفقر ، ومن العز إلى الذل ، ولكن محبها قد أصمه وأعماه حبها ، فهو لا يسمع نداءها ، كما قيل :


قد نادت الدنيا على نفسها     لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر أفنيته     وجامع بددت ما يجمع



وقال يحيى بن معاذ : لو يسمع الخلائق صوت النياحة على الدنيا في الغيب من ألسنة الفناء ، لتساقطت القلوب منهم حزنا . وقال بعض الحكماء : الدنيا أمثال تضربها الأيام للأنام ، وعلم الزمان لا يحتاج إلى ترجمان ، وبحب الدنيا صمت أسماع القلوب عن المواعظ ، وما أحث السائق لو شعر الخلائق .



وأهل الزهد في فضول الدنيا أقسام : فمنهم من يحصل له ، فيمسكه [ ص: 196 ] ويتقرب به إلى الله ، كما كان كثير من الصحابة وغيرهم ، قال أبو سليمان : كان عثمان وعبد الرحمن بن عوف خازنين من خزان الله في أرضه ، ينفقان في طاعته ، وكانت معاملتهما لله بقلوبهما .

ومنهم من يخرجه من يده ولا يمسكه : وهؤلاء نوعان : منهم من يخرجه اختيارا وطواعية ، ومنهم من يخرجه ونفسه تأبى إخراجه ، ولكن يجاهدها على ذلك . وقد اختلف في أيهما أفضل ، فقال ابن السماك والجنيد : الأول أفضل ، لتحقق نفسه بمقام السخاء والزهد ، وقال ابن عطاء : الثاني أفضل لأن له عملا ومجاهدة . وفي كلام الإمام أحمد ما يدل عليه أيضا .

ومنهم من لم يحصل له شيء من الفضول ، وهو زاهد في تحصيله ، إما مع قدرته ، أو بدونها ، والأول أفضل من هذا ، ولهذا قال كثير من السلف : إن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس ونحوه ، كذا قال أبو سليمان وغيره .

وكان مالك بن دينار يقول : الناس يقولون : مالك زاهد ، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز .

وقد اختلف العلماء : أيما أفضل من طلب الدنيا من الحلال ، ليصل رحمه ، ويقدم منها لنفسه ، أم من تركها فلم يطلبها بالكلية ؟ فرجحت طائفة من تركها وجانبها ، منهم الحسن وغيره ، ورجحت طائفة من طلبها على ذلك الوجه ، منهم النخعي وغيره ، وروي عن الحسن عنه نحوه .

والزاهدون في الدنيا بقلوبهم لهم ملاحظ ومشاهد يشهدونها ، فمنهم من يشهد كثرة التعب بالسعي في تحصيلها ، فهو يزهد فيها قصدا لراحة نفسه . قال [ ص: 197 ] الحسن : الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن .

ومنهم من يخاف أن ينقص حظه من الآخرة بأخذ فضول الدنيا . ومنهم من يخاف من طول الحساب عليها ، قال بعضهم : من سأل الله الدنيا ، فإنما يسأل طول الوقوف للحساب .

ومنهم من يشهد كثرة عيوب الدنيا ، وسرعة تقلبها وفنائها ، ومزاحمة الأراذل في طلبها ، كما قيل لبعضهم : ما الذي زهدك في الدنيا ؟ قال : قلة وفائها ، وكثرة جفائها ، وخسة شركائها .

ومنهم من كان ينظر إلى حقارة الدنيا عند الله ، فيقذرها ، كما قال الفضيل : لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي حلالا لا أحاسب بها في الآخرة ، لكنت أتقذرها كما يتقذر الرجل الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه .

ومنهم من كان يخاف أن تشغله عن الاستعداد للآخرة والتزود لها ، قال الحسن : إن كان أحدهم ليعيش عمره مجهودا شديد الجهد ، والمال الحلال إلى جنبه ، يقال له : ألا تأتي هذا فتصيب منه ؟ فيقول : لا والله لا أفعل ، إني أخاف أن آتيه فأصيب منه فيكون فساد قلبي وعملي .

وبعث إلى عمر بن المنكدر بمال ، فبكى واشتد بكاؤه ، وقال : خشيت أن تغلب الدنيا على قلبي ، فلا يكون للآخرة فيه نصيب ، فذلك الذي أبكاني ثم أمر به فتصدق به على فقراء أهل المدينة .

وخواص هؤلاء يخشى أن يشتغل بها عن الله ، كما قالت رابعة : ما أحب [ ص: 198 ] أن لي الدنيا كلها من أولها إلى آخرها حلالا ، وأنا أنفقها في سبيل الله ، وأنها شغلتني عن الله طرفة عين .

وقال أبو سليمان : الزهد ترك ما يشغل عن الله . وقال : كل ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد ، فهو مشئوم .

وقال : أهل الزهد في الدنيا على طبقتين : منهم من يزهد في الدنيا ، فلا يفتح له فيها روح الآخرة ، ومنهم من إذا زهد فيها ، فتح له فيها روح الآخرة ، فليس شيء أحب إليه من البقاء ليطيع الله .

وقال : ليس الزاهد من ألقى هموم الدنيا ، واستراح منها ، إنما الزاهد من زهد في الدنيا ، وتعب فيها للآخرة .

فالزهد في الدنيا يراد به تفريغ القلب من الاشتغال بها ، ليتفرغ لطلب الله ، ومعرفته والقرب منه والأنس به ، والشوق إلى لقائه ، وهذه الأمور ليست من الدنيا ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة ، ولم يجعل الصلاة مما حبب إليه من الدنيا ، كذا في " المسند " و " النسائي " ، وأظنه وقع في غيرهما : حبب إلي من دنياكم ثلاث فأدخل الصلاة في الدنيا ، ويشهد لذلك حديث : الدنيا ملعونة ، [ ص: 199 ] ملعون ما فيها ، إلا ذكر الله وما والاه ، أو عالما أو متعلما خرجه ابن ماجه والترمذي ، وحسنه من حديث أبي هريرة مرفوعا . وروي نحوه من غير وجه مرسلا ومتصلا .

وخرج الطبراني من حديث أبي الدرداء مرفوعا قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله . وخرجه ابن أبي الدنيا موقوفا ، وخرجه أيضا من رواية شهر بن حوشب عن عبادة ، أراه رفعه ، قال : يؤتى بالدنيا يوم القيامة ، فيقال ميزوا منها ما كان لله عز وجل ، وألقوا سائرها في النار .

فالدنيا وكل ما فيها ملعونة ، أي مبعدة عن الله ، لأنها تشغل عنه ، إلا العلم النافع الدال على الله ، وعلى معرفته ، وطلب قربه ورضاه ، وذكر الله وما والاه مما يقرب من الله ، فهذا هو المقصود من الدنيا ، فإن الله إنما أمر عباده بأن يتقوه ويطيعوه ، ولازم ذلك دوام ذكره ، كما قال ابن مسعود ، تقوى الله حق تقواه أن يذكر فلا ينسى . وإنما شرع الله إقام الصلاة لذكره ، وكذلك الحج والطواف . وأفضل أهل العبادات أكثرهم ذكرا لله فيها ، فهذا كله ليس من الدنيا المذمومة [ ص: 200 ] وهو المقصود من إيجاد الدنيا وأهلها ، كما قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] .



وقد ظن طوائف من الفقهاء والصوفية أن ما يوجد في الدنيا من هذه العبادات أفضل مما يوجد في الجنة من النعيم ، قالوا : لأن نعيم الجنة حظ العبد ، والعبادات في الدنيا حق الرب ، وحق الرب أفضل من حظ العبد ، وهذا غلط ، ويقوي غلطهم قول كثير من المفسرين في قوله : من جاء بالحسنة فله خير منها [ النمل : 89 ] قالوا : الحسنة : لا إله إلا الله ، وليس شيء خيرا منها . ولكن الكلام على التقديم والتأخير ، والمراد : فله منها خير ، أي : له خير بسببها ولأجلها .

والصواب إطلاق ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة أن الآخرة خير من الأولى مطلقا . وفي " صحيح الحاكم " عن المستورد بن شداد ، قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فتذكروا الدنيا والآخرة : فقال بعضهم : إنما الدنيا بلاغ للآخرة ، وفيها العمل ، وفيها الصلاة ، وفيها الزكاة . وقالت طائفة منهم : الآخرة فيها الجنة ، وقالوا ما شاء الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم ، فأدخل أصبعه فيه ، فما خرج منه فهو الدنيا فهذا نص بتفضيل الآخرة على الدنيا ، وما فيها من الأعمال .

ووجه ذلك أن كمال الدنيا إنما هو في العلم والعمل ، والعلم مقصود الأعمال ، يتضاعف في الآخرة بما لا نسبة لما في الدنيا إليه ، فإن العلم أصله العلم بالله وأسمائه وصفاته ، وفي الآخرة ينكشف الغطاء ، ويصير الخبر عيانا ، ويصير علم اليقين عين اليقين ، وتصير المعرفة بالله رؤية له ومشاهدة ، فأين هذا مما في الدنيا ؟

[ ص: 201 ] وأما الأعمال البدنية ، فإن لها في الدنيا مقصدين : أحدهما : اشتغال الجوارح بالطاعة ، وكدها بالعبادة . والثاني : اتصال القلوب بالله وتنويرها بذكره .

فالأول قد رفع عن أهل الجنة ، ولهذا روي أنهم إذا هموا بالسجود لله عند تجليه لهم يقال لهم : ارفعوا رءوسكم فإنكم لستم في دار مجاهدة .

وأما المقصود الثاني ، فحاصل لأهل الجنة على أكمل الوجوه وأتمها ، ولا نسبة لما حصل لقلوبهم في الدنيا من لطائف القرب والأنس والاتصال إلى ما يشاهدونه في الآخرة عيانا ، فتتنعم قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم بقرب الله ورؤيته ، وسماع كلامه ، ولا سيما في أوقات الصلوات في الدنيا ، كالجمع والأعياد ، والمقربون منهم يحصل ذلك لهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا في وقت صلاة الصبح وصلاة العصر ، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم ، حض عقيب ذلك على المحافظة على صلاة العصر وصلاة الفجر ؛ لأن وقت هاتين الصلاتين وقت لرؤية خواص أهل الجنة ربهم وزيارتهم له ، وكذلك نعيم الذكر وتلاوة القرآن لا ينقطع عنهم أبدا ، فيلهمون التسبيح كما يلهمون النفس . قال ابن عيينة : لا إله إلا الله لأهل الجنة ، كالماء البارد لأهل الدنيا ، فأين لذة الذكر للعارفين في الدنيا من لذتهم به في الجنة .

فتبين بهذا أن قوله : من جاء بالحسنة فله خير منها [ النمل : 89 ] على ظاهره ، فإن ثواب كلمة التوحيد في الدنيا أن يصل صاحبها إلى قولها في الجنة على الوجه الذي يختص به أهل الجنة .

[ ص: 202 ] وبكل حال ، فالذي يحصل لأهل الجنة من تفاصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ومن قربه ومشاهدته ولذة ذكره ، هو أمر لا يمكن التعبير عن كنهه في الدنيا ، لأن أهلها لم يدركوه على وجهه ، بل هو مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، والله تعالى المسئول أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا بمنه وكرمه ورحمته آمين .



ولنرجع إلى شرح حديث : ازهد في الدنيا يحبك الله فهذا الحديث يدل على أن الله يحب الزاهدين في الدنيا ، قال بعض السلف : قال الحواريون لعيسى عليه السلام : يا روح الله ، علمنا عملا واحدا يحبنا الله عز وجل عليه ، قال : أبغضوا الدنيا يحبكم الله عز وجل .

وقد ذم الله تعالى من يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة ، كما قال : كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة [ القيامة : 20 - 21 ] ، وقال : وتحبون المال حبا جما [ الفجر : 20 ] ، وقال : وإنه لحب الخير لشديد [ العاديات : 8 ] ، والمراد حب المال ، فإذا ذم من أحب الدنيا دل على مدح من لا يحبها ، بل يرفضها ويتركها .

وفي " المسند " و " صحيح ابن حبان " عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته ، أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى .

وفي " المسند " و " سنن ابن ماجه " عن زيد بن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من كانت الدنيا همه ، فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته ، جمع الله عليه أمره ، وجعل غناه في [ ص: 203 ] قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة . وخرجه الترمذي من حديث أنس مرفوعا بمعناه .

ومن كلام جندب بن عبد الله الصحابي : حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وروي مرفوعا ، وروي عن الحسن مرسلا .

وقال الحسن : من أحب الدنيا وسرته ، خرج حب الآخرة من قلبه .

وقال عون بن عبد الله : الدنيا والآخرة في القلب ككفتي الميزان بقدر ما ترجح إحداهما تخف الأخرى .

وقال وهب : إنما الدنيا والآخرة كرجل له امرأتان : إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى .

وبكل حال ، فالزهد في الدنيا شعار أنبياء الله وأوليائه وأحبائه ، قال عمرو بن العاص : ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم ، إنه كان أزهد الناس في الدنيا وأنتم أرغب الناس فيها ، خرجه الإمام أحمد . [ ص: 204 ] وقال ابن مسعود لأصحابه : أنتم أكثر صوما وصلاة وجهادا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم كانوا خيرا منكم ، قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : كانوا أزهد منكم في الدنيا ، وأرغب منكم في الآخرة .

وقال أبو الدرداء : لئن حلفتم لي على رجل أنه أزهدكم ، لأحلفن لكم أنه خيركم . ويروى عن الحسن ، قال : قالوا : يا رسول الله ، من خيرنا ؟ قال : أزهدكم في الدنيا ، وأرغبكم في الآخرة والكلام في هذا الباب يطول جدا . وفيما أشرنا إليه كفاية إن شاء الله تعالى .

الوصية الثانية : الزهد فيما في أيدي الناس ، وأنه موجب لمحبة الناس . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى رجلا ، فقال : ايأس مما في أيدي الناس تكن غنيا خرجه الطبراني وغيره .

ويروى من حديث سهل بن سعد مرفوعا : شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس .

وقال الحسن : لا تزال كريما على الناس ، أو لا يزال الناس يكرمونك ما لم [ ص: 205 ] تعاط ما في أيديهم ، فإذا فعلت ذلك ، استخفوا بك ، وكرهوا حديثك ، وأبغضوك .

وقال أيوب السختياني : لا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان : العفة عما في أيدي الناس ، والتجاوز عما يكون منهم .

وكان عمر يقول في خطبته على المنبر : إن الطمع فقر ، وإن اليأس غنى ، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه .

وروي أن عبد الله بن سلام لقي كعب الأحبار عند عمر ، فقال : يا كعب ، من أرباب العلم ؟ قال : الذين يعملون به ، قال : فما يذهب بالعلم من قلوب العلماء بعد أن حفظوه وعقلوه ؟ قال : يذهبه الطمع ، وشره النفس ، وتطلب الحاجات إلى الناس ، قال : صدقت .

وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم ، فمن سأل الناس ما بأيديهم ، كرهوه وأبغضوه ؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم ، فمن طلب منهم ما يحبونه ، كرهوه لذلك .

وأما من كان يرى المنة للسائل عليه ، ويرى أنه لو خرج له عن ملكه كله ، لم يف له ببذل سؤاله له وذلته له ، أو كان يقول لأهله : ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم ، ودوابكم تحت غيركم أحسن منها تحتكم ، فهذا نادر جدا من طباع بني آدم ، وقد انطوى بساط ذلك من أزمان متطاولة .

وأما من زهد فيما في أيدي الناس ، وعف عنهم ، فإنهم يحبونه ويكرمونه [ ص: 206 ] لذلك ويسود به عليهم ، كما قال أعرابي لأهل البصرة : من سيد أهل هذه القرية ؟ قالوا : الحسن ، قال : بما سادهم ؟ قالوا : احتاج الناس إلى علمه ، واستغنى هو عن دنياهم ، وما أحسن قول بعض السلف في وصف الدنيا وأهلها :


وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها     فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها






الخدمات العلمية