الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 125 ] قوله عز وجل:

وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم

لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والديون، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص من أحوال الرهن على السفر الذي هو الغالب من الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو.

ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر، كأوقات أشغال الناس، وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن. وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب، إني لأمين في الأرض، أمين في السماء، ولو ائتمنني لأديت، اذهبوا إليه بدرعي" . وقد قال جمهور من العلماء: الرهن في السفر ثابت في القرآن، وفي الحضر ثابت في الحديث، وهذا حسن، إلا أنه لم يمعن فيه النظر في لفظ السفر في الآية، وإذا كان السفر في الآية مثالا من الأعذار، فالرهن في الحضر موجود في الآية بالمعنى إذ قد تترتب الأعذار في الحضر. وذهب الضحاك، ومجاهد إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر، وأما في الحضر فلا ينبغي [ ص: 126 ] شيء من ذلك، وضعف الطبري قولهما في الرهن بحسب الحديث الثابت الذي ذكرته، وقوى قولهما في الائتمان، والصحيح ضعف القول في الفصلين، بل يقع الائتمان في الحضر كثيرا ويحسن.

وقرأ جمهور القراء: "كاتبا" بمعنى رجل يكتب، وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس "كتابا": بكسر الكاف، وتخفيف التاء، وألف بعدها، وهو مصدر قال مكي: وقيل: هو جمع كاتب كقائم وقيام، ومثله صاحب وصحاب، وقرأ بذلك مجاهد، وأبو العالية، وقالا: المعنى: وإن عدمت الدواة والقلم أو الصحيفة.

ونفي وجود الكتاب يكون بعدم أي آلة اتفق من الآلة، فنفي الكتاب يعمها، ونفي الكاتب أيضا يقتضي نفي الكتاب، فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف، وروي عن ابن عباس أنه قرأ "كتابا" بضم الكاف على جمع كاتب، وهذا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب فقيل للجماعة: "ولم تجدوا كتابا"، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ: "كاتبا". وحكى المهدوي، عن أبي العالية أنه قرأ: "كتبا"، وهذا جمع "كتاب" من حيث النوازل مختلفة، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ: "كتابا" .

وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وجمهور من العلماء: "فرهان" ، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: "فرهن" بضم الراء والهاء، وروي عنهما تخفيف الهاء، وقد قرأ بكل واحدة جماعة غيرهما.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: رهن الشيء في كلام العرب معناه: دام واستمر. يقال: أرهن لهم الشرب وغيره. قال ابن سيده: ورهنه: أي أدامه -ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر:


اللحم والخبز لهم راهنا ... وقهوة راووقها ساكب



[ ص: 127 ] أي دائم، قال أبو علي: ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى يد الراهن بوجه من الوجوه، لأنه فارق ما جعل له، ويقال: أرهن في السلعة إذا غالى فيها حتى أخذها بكثير الثمن، ومنه قول الشاعر في وصف ناقة:


يطوي ابن سلمى بها من راكب بعدا ...     عيدية أرهنت فيها الدنانير



العيد بطن من مهرة، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة. ويقال في معنى الرهن الذي هو التوثق من الحق:

أرهنت إرهانا فيما حكى بعضهم. وقال أبو علي: يقال: أرهنت في المغالاة، وأما في القرض والبيع فرهنت.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويقال بلا خلاف في البيع والقرض: رهنت رهنا، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع، ونقل إلى التسمية، ولذلك كسر في الجمع كما تكسر الأسماء، وكما تكسر المصادر التي يسمى بها وصار فعله ينصبه نصب المفعول به لا نصب المصدر تقول: [ ص: 128 ] رهنت رهنا، فذلك كما تقول: رهنت ثوبا، لا كما تقول: رهنت الثوب رهنا، وضربت ضربا، قال أبو علي: وقد يقال في هذا المعنى: أرهنت، وفعلت فيه أكثر، ومنه قول الشاعر:


يراهنني فيرهنني بنيه ...     وأرهنه بني بما أقول



وقال الأعشى:


حتى يفيدك من بنيه رهينة ...     نعش ويرهنك السماك الفرقدا



فهذه رويت من: رهن. وأما أرهن فمنه قول همام بن مرة:


ولما خشيت أظافيرهم ...     نجوت وأرهنتهم مالكا



قال الزجاج: يقال في الرهن: رهنت وأرهنت، وقاله ابن الأعرابي، ويقال: رهنت لساني بكذا، ولا يقال فيه: أرهنت.

قال فمن قرأ: "فرهان" فهو جمع رهن ككبش وكباش ، وكعب وكعاب، ونعل ونعال،. وبغل وبغال. ومن قرأ: "فرهن" بضم الراء والهاء فهو جمع رهن - كسقف وسقف، وأسد وأسد، إذ فعل وفعل يتقاربان في أحكامهما، ومن قرأ "فرهن" بسكون الهاء فهو تخفيف رهن وهي لغة في هذا الباب كله - ككتب وفخذ وعضد وغير ذلك. قال أبو علي: وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء، ولو جاء لكان قياسه أفعل ككلب [ ص: 129 ] وأكلب، وكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في رسن وأرسان.

فرهن يجمع على بناءين من أبنية الجموع وهما: فعل وفعال، فمما جاء على فعل قول الأعشى:


آليت لا أعطيه من أبنائنا ...     رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا



قال الطبري: تأول قوم أن رهنا بضم الراء والهاء، جمع رهان، فهو جمع جمع، وحكاه الزجاج عن الفراء. ووجه أبو علي قياسا يقتضي أن يكون رهانا جمع رهن بأن يقال: يجمع فعل على فعال كما جمعوا فعالا على فعائل في قول ذي الرمة:


وقربن بالزرق الجمائل بعد ما ...     تقوب عن غربان أوراكها الخطر



ثم ضعف أبو علي هذا القياس، وقال إن سيبويه لا يرى جمع الجمع مطردا، فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يرد سماعا.

وقوله عز وجل: "مقبوضة" يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله فيما علمت، واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه - فقال مالك، وجميع أصحابه، وجمهور العلماء: قبض العدل قبض، وقال الحكم بن عتيبة، وأبو الخطاب قتادة بن دعامة، وغيرهما: ليس قبض العدل بقبض. وقول الجمهور أصح من جهة المعنى في الرهن.

وقوله تعالى: فإن أمن الآية، شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء، [ ص: 130 ] وقوله: "فليؤد" أمر بمعنى الوجوب، بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون، وثبوت حكم الحاكم به، وجبره الغرماء عليه، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير، وقوله: "أمانته" مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة، ويحتمل أن يريد بالأمانة نفس المصدر، كأنه قال:

فليحفظ مروءته، فيجيء التقدير: فليؤد دين أمانته، وقرأ عاصم - فيما روى عنه أبو بكر "الذي اؤتمن" برفع الذال، ويشير بالضم إلى الهمزة، قال أحمد بن موسى: وهذه الترجمة غلط، وقرأ الباقون بالذال مكسورة، وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره. وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم، وهذا خطأ أيضا لا يجوز، وصوب أبو علي هذا القول كله الذي لأحمد بن موسى، واحتج له، وقرأ ابن محيصن: "الذي ايتمن" بياء ساكنة مكان الهمزة، وكذلك ما كان مثله.

وقوله تعالى: ولا تكتموا الشهادة نهي على الوجوب بعدة قرائن منها الوعيد. وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق. وقال ابن عباس: على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد، ويخبر حيثما استخبر، قال: ولا تقل: أخبر بها عند الأمير، بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي.

[ ص: 131 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا عندي بحسب قرينة حال الشاهد، والمشهود فيه، والنازلة، لا سيما مع فساد الزمن، وأرذال الناس، ونفاق الحيلة، وأعراض الدنيا عند الحكام. فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سببا لتخدم باطلا ينطمس به الحق.

و"آثم" معناه: قد تعلق به الحكم اللاحق عن المعصية في كتمان الشهادة. وإعرابه أنه خبر "إن" ، و"قلبه" فاعل بـ "آثم"، ويجوز أن يكون ابتداء، و"قلبه" فاعل يسد مسد الخبر، والجملة خبر "إن"، ويجوز أن يكون "قلبه" بدلا على بدل البعض من الكل، وخص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد، كما قال عليه السلام، وقرأ ابن أبي عبلة "فإنه آثم قلبه" بنصب الباء، قال مكي: هو على التفسير، ثم ضعفه من أجل أنه معرفة. وفي قوله تعالى: والله بما تعملون عليم توعد وإن كان لفظها يعم الوعد والوعيد.

التالي السابق


الخدمات العلمية