الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الخصلة الثالثة : الإطعام ، فيها مسائل .

                                                                                                                                                                        إحداها : في قدر الطعام ، وهو في كفارة الظهار والجماع في رمضان ، والقتل إن أوجبناه ، فيها ستون مدا لستين مسكينا ، والمد : رطل وثلث بالبغدادي ، [ ص: 305 ] وهو مد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . واعلم أن في قدر الفطرة والكفارة ونحوهما نوع إشكال ، لأن الصيدلاني وغيره ذكروا أن المعتبر فيه الكيل دون الوزن ، لاختلاف جنس المكيل في الخفة والثقل ، فالبر أثقل من الشعير ، وأنواع البر تختلف ، فالواجب ما حواه المكيال بالغا وزنه ما بلغ . وقال بعضهم : التقدير المذكور في وزن المد ، اعتبر فيه البر أو التمر ، ومقتضى هذا ، أن يجزئ من الشعير ملء الصاع والمد ، وإن نقص وزنه ، لكن اشتهر عن أبي عبيد القاسم بن سلام ، ثم عن ابن سريج ، أن درهم الشريعة خمسون حبة وخمسا حبة ، ويسمى ذلك : درهم الكيل ، لأن الرطل الشرعي منه يركب ، ويركب من الرطل المد والصاع . وذكر الفقيه أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر بن عطية ، أن الحبة التي يتركب منها الدرهم ، هي حبة الشعير المتوسطة التي لم تقشر وقطع من طرفيها ما امتد . ومقتضى هذا ، أن يحوي الصاع هذا القدر من الشعير ، وحينئذ إن اعتبرنا الوزن لم يملأ البر بهذا الوزن الصاع ، وإن اعتبرنا الكيل ، كان المجزئ من البر أكثر من الشعير وزنا .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الإشكال وجوابه ، قد أوضحته في " باب زكاة المعشرات " . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : يجب الصرف إلى ستين مسكينا ، فلو صرف إلى واحد ستين مدا في ستين يوما ، لم يجزئه ، ولو جمع ستين ، ووضع بين أيديهم ستين مدا ، وقال : ملكتكم هذا وأطلق ، أو قال : بالسوية فقبلوه ، أجزأه على الصحيح . وقال الاصطخري : لا يجزئه ، ولو قال : خذوا ونوى الكفارة ، فأخذوا بالسوية ، أجزأه ، وإن تفاوتوا ، لم يجزئه إلا واحد ، لأنا نتيقن أن أحدهم أخذ مدا ، فإن تيقنا أن عشرة أو عشرين أو غيرهم أخذ كل واحد منهم مدا فأكثر ، أجزأه ذلك العدد ، ولزمه الباقي ، ولو صرف الستين إلى ثلاثين مسكينا ، أجزأه [ ص: 306 ] ثلاثون مدا ، ويصرف إلى ثلاثين غيرهم ثلاثين مدا ، ويسترد الأمداد الزائدة من الأولين إن شرط كونها كفارة ، وإلا فلا يسترد .

                                                                                                                                                                        ولو صرف ستين مدا إلى مائة وعشرين مسكينا ، أجزأه من ذلك ثلاثون مدا ، ويصرف ثلاثين مدا إلى ستين منهم ، والاسترداد من الباقين على التفصيل المذكور . ويجوز صرف الكفارة إلى الفقراء ، ولا يجوز صرفها إلى كافر ، ولا إلى هاشمي ومطلبي ، ولا إلى من يلزمه نفقته كزوجة وقريب ، ولا إلى عبد ، ولا إلى مكاتب . ولو صرف إلى عبد بإذن سيده ، والسيد بصفة الاستحقاق ، جاز ، لأنه صرف إلى السيد . ولو صرف إليه بغير إذنه ، بني على قبوله الوصية بغير إذنه ، ويجوز أن يصرف للمجنون والصغير إلى وليهما . وقيل : إن كان الصغير رضيعا ، لم يصح الصرف له ، لأن طعامه اللبن ، والصحيح الأول . وحكى ابن كج فيما لو دفعه إلى الصغير فبلغه الصغير وليه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يجوز أن يصرف إلى مسكين واحد مدين عن كفارتين ، ولو دفع مدا إلى مسكين ، ثم اشتراه منه ودفعه إلى آخر ، ولم يزل يفعل به هكذا حتى استوعب ستين مسكينا ، أجزأه ، لكنه مكروه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو وطئ المظاهر منها في خلال الإطعام ، لم يجب الاستئناف ، كما لو وطئ في خلال الصوم بالليل .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        أطعم بعض المساكين ، ثم قدر على الصوم ، لا يلزمه العود إليه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 307 ] فرع

                                                                                                                                                                        ذكر الروياني في التجربة ، أنه لو دفع الطعام إلى الإمام ، فتلف في يده قبل تفرقته على المساكين ، لا يجزئه على ظاهر المذهب ، بخلاف الزكاة ، لأن الإمام لا يد له على الكفارة .

                                                                                                                                                                        المسألة الثالثة : جنس طعام الكفارة ، كالفطرة ، وقيل : لا يجزئ الأرز ، وقيل : لا يجزئ إذا نحيت عنه القشرة العليا ، لأن ادخاره فيها ، والصحيح الإجزاء ، ثم إن كان في القشرة العليا ، أخرج قدرا يعلم اشتماله على مد من الحب ، ولم يجر هذا الخلاف في الفطرة . وجرى ذكر قول في العدس والحمص ، ويشبه أن يجيء في كل باب ما نقل في الآخر ، وفي الأقط الخلاف المذكور هناك . فإن قلنا بالإجزاء ، فيخص أهل البادية ، أم يعم الحاضر والبادي ؟ حكى ابن كج فيه وجهين . وفي اللحم واللبن خلاف مرتب على الأقط ، وأولى بالمنع ، ثم الاعتبار بغالب قوت البلد من الأقوات المجزئة ، أم بغالب قوته ، أم يتخير ؟ فيه أوجه ، الصحيح : الأول : فإن كان الغالب مما لا يجزئ كاللحم ، اعتبر الغالب من قوت أقرب البلاد ، ولا يجزئ الدقيق ولا السويق ، ولا الخبز على الصحيح في الثلاثة ، ولا تجزئ القيمة قطعا .

                                                                                                                                                                        المسألة الرابعة : يشترط تمليك المستحقين وتسليطهم التام ، فلا تكفي التغذية والتعشية بالتمر ونحوه .

                                                                                                                                                                        المسألة الخامسة : في بيان ما يجوز العدول إلى الإطعام ، فمن عجز عن الصوم بهرم أو مرض ، أو لحقه من الصوم مشقة شديدة ، أو خاف زيادة في المرض ، فله العدول إلى الإطعام ، ثم قال الإمام والغزالي : لو كان المرض يدوم شهرين في غالب الظن المستفاد من العادة في مثله ، أو من قول الأطباء ، فله العدول إلى الإطعام ، ولا ينتظر زواله ليصوم ، بخلاف ما لو كان ماله غائبا ، فإنه ينتظره للعتق ، لأنه لا يقال فيه : لم يجد رقبة ، ويقال للعاجز بالمرض الناجز لا يستطيع [ ص: 308 ] الصوم ، ومقتضى كلام الأكثرين أنه لا يجوز العدول إلى الإطعام بهذا المرض ، بل يعتبر أن يكون بحيث لا يرجى زواله ، وصرح المتولي [ بأن المرض ] المرجو الزوال كالمال الغالب ، فلا يعدل بسببه إلى الإطعام في غير كفارة الظهار ، وفيها الخلاف السابق ، فإن جوزنا الإطعام مع رجاء الزوال ، فأطعم ثم زال ، لم يلزمه العود إلى الصيام . وإن اعتبرنا كونه غير مرجو الزوال ، فكان كذلك ، ثم اتفق زواله نادرا ، فيشبه أن يلتحق بما إذا أعتق عبدا لا يرجى زوال مرضه فزال .

                                                                                                                                                                        قلت : صرح كثيرون باشتراط كون المرض لا يرجى زواله ، والأصح ما قاله الإمام ، وقد وافقه عليه آخرون . وقال صاحب " الحاوي " : إن كان عجزه بهرم ونحوه ، فهو متأبد ، فله الإطعام ، والأولى تقديمه ، وإن كان يرجى زواله كالعجز بالمرض ، فهو بالخيار بين تعجيل الإطعام وبين انتظار البر للتكفير بالصيام ، وسواء كان عجزه بحيث لا يقدر على الصيام أو يلحقه مشقة غالبة مع قدرته عليه ، فله في الحالين الإطعام ، وكذا الفطر في رمضان ، قال : ولو قدر على صوم شهر فقط ، أو على صوم شهرين بلا تتابع ، فله العدول إلى الإطعام . قال إمام الحرمين في " باب زكاة الفطر " : لو عجز عن العتق والصوم ولم يملك من الطعام إلا ثلاثين مدا ، أو مدا واحدا ، لزمه إخراجه بلا خلاف ، إذ لا بد له ، وإن وجد بعض مد ، ففيه احتمال ، هذا كلامه ، وينبغي أن يجزم بوجوب بعض المد للعلة المذكورة في المد .

                                                                                                                                                                        قال الدارمي في " كتاب الصيام " : إذا قدر على بعض الإطعام ، وقلنا : يسقط عن العاجز ، ففي سقوطها عن هذا وجهان ، فإن قلنا : لا تسقط ، أخرج الموجود ، وفي ثبوت الباقي في ذمته وجهان . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 309 ] فرع

                                                                                                                                                                        السفر الذي يجوز الفطر في رمضان ، لا يجوز العدول إلى الإطعام على الصحيح ، وعن القاضي حسين وغيره جوازه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في جواز العدول إلى الإطعام بعذر الشبق وغلبة الشهوة وجهان . أصحهما عند الإمام والغزالي : المنع ، ومال الأكثرون إلى التجويز ، وبه قال أبو إسحاق ، ولم يذكر القاضي حسين غيره ، بخلاف صوم رمضان ، فإنه لا يجوز تركه بهذا ، لأنه لا بدل له .

                                                                                                                                                                        قلت : ولأن في صوم رمضان يمكن الجماع ليلا ، بخلاف كفارة الظهار ، ولو كان يغلبه الجوع ويعجز عن الصوم ، قال القفال والقاضي حسين والبغوي : لا يجوز له ترك الشروع في الصوم ، بل يشرع ، فإذا عجز ، أفطر ، بخلاف الشبق ، فإن له ترك الشروع على الأصح ، لأن الخروج من الصوم يباح بفرط الجوع دون فرط الشبق . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية