الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية

قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو عبد الرحمن ، والناس: "ومن قبله" بفتح القاف وسكون الباء، أي الأمم الكافرة التي كانت قبله، ويؤيد ذلك ذكره بعد قصة نوح في طغيان الماء; لأن قوله: "من قبله" قد تضمنهم فحسن اقتضاب أمرهم بعد ذلك دون تصريح، وقال أبو عمرو والكسائي ، وعاصم في -رواية أبان- والحسن بخلاف عنه- وأبو رجاء ، والجحدري، وطلحة : "ومن قبله" ، بكسر القاف وفتح الباء, أي: أجناده وأهل طاعته، ويؤيد ذلك أن في مصحف أبي بن كعب : [وجاء فرعون ومن معه]، وفي حرف أبي موسى الأشعري : "ومن تلقاءه"، وقرأ طلحة بن مصرف : "ومن حوله". و"قبل الإنسان": ما يليه في المكان، وكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة: عندي وفي ذمتي وما يليني بأي وجه وليني.

[ ص: 388 ] و"المؤتفكات": قرى قوم لوط عليه السلام، وكانت أربعا فيما روي، وائتفكت: قلبت وصار عاليها سافلها فائتفكت هي فهي مؤتفكة، وقرأ الحسن هنا: "والمؤتفكة" على الإفراد، و"الخاطئة" إما أن تكون صفة لمحذوف، كأنه قال: بالفعل الخاطئة، وإما أن يريد المصدر، أي بالخطأ في كفرهم وعصيانهم.

وقوله تعالى: فعصوا رسول ربهم يحتمل أن يكون "الرسول" اسم جنس، كأنه قال: فعصى هؤلاء الأقوام والفرق أنبياء الله تعالى الذين أرسلهم إليهم، ويحتمل أن يكون "الرسول" بمعنى الرسالة، وقال الكلبي : يعني موسى عليه السلام، وقال غيره -في كتاب الثعلبي -: يعني لوطا عليه السلام. و"الرابية": النامية التي قد عظمت جدا، ومنه: الربا، وربا المال، ومنه "اهتزت وربت".

ثم عدد تعالى على الناس نعمته في قوله تعالى: إنا لما طغى الماء والمراد: طغى الماء في وقت الطوفان الذي كان على قوم نوح عليه السلام، والطغيان: الزيادة على الحدود المتعارفة في الأشياء، ومعناه: طغى على خزانه في خروجه، وعلى البشر في أن أغرقهم، قال قتادة : علا على كل شيء خمسة عشر ذراعا، و"الجارية": السفينة.

والضمير في قوله تعالى لنجعلها عائد على الفعلة، أي: من تذكرها ازدجر، ويحتمل أن يعود على "الجارية"، أي: من سمعها اعتبر، و"الجارية" يراد بها سفينة نوح عليه السلام، قاله منذر، وقال المهدوي: المعنى: في السفن الجارية، وقال قتادة : أبقى الله تعالى تلك السفينة حتى رأى بعض عيدانها أوائل هذه الأمة، وغيرها من السفائن التي صنعت بعدها قد صارت رمادا.

وقوله تعالى: وتعيها أذن واعية عبارة عن الرجل الفهم المنور القلب الذي يسمع القول فيتلقاه بفهم وتدبر، قال أبو عمران الجوني : "واعية" عقلت عن الله عز وجل، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إني دعوت الله أن يجعلها أذنك يا علي"، قال علي رضي الله عنه : فما سمعت بعد ذلك شيئا فنسيته.

[ ص: 389 ] وقرأ الجمهور: "تعيها" بكسر العين على وزن "تليها"، وقرأ ابن كثير -في رواية الحلواني- وقنبل ، وابن مصرف : "وتعيها" بسكون العين، جعل التاء التي هي علامة في المضارع بمنزلة الكاف من "كتف"; إذ حرف المضارعة لا يفارق الفعل فيسكن تخفيفا كما يقال: "كتف" ونحو هذا قول الشاعر:


قالت سليمى اشتر لنا سويقا.



على أن هذا البيت منفصل، فهو أبعد، لكن ضرورة الشعر تسامح به.

ثم ذكر تعالى بأمر القيامة، و"الصور": القرن الذي ينفخ فيه، قال سليمان بن أرقم : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال: "هو قرن من نور، فمه أوسع من السماوات" والنفخة المشار إليها في هذه الآية نفخة القيامة التي للفزع، ومعها يكون الصعق ثم نفخة البعث، وقيل: هي نفخات ثلاث: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ثم نفخة البعث، والإشارة بآياتنا هذه إلى نفخة الفزع لأن حمل الجبال هو بعدها، وقرأ الجمهور: "نفخة" بالرفع، لما نعت صح رفعه، وقرأ أبو السمال بالنصب.

وقرأ جمهور القراء: "وحملت" بتخفيف الميم، بمعنى: حملتها الرياح والقدرة، وقرأ ابن عامر فيما روي عنه: "وحملت" بشد الميم، وذلك يحتمل معنيين: أحدهما أنها حاملة حملت قدرة لله تعالى وعنفا وشدة تفتتها، فهي محملة حاملة، والآخر أن تكون محمولة حملتها ملائكة أو قدرة.

[ ص: 390 ] وقوله تعالى: فدكتا دكة واحدة . قال: "فدكتا" وقد ذكر جمعا وساغ ذلك لأن المذكور فرقتان، وهذا كما قال الشاعر :


ألم يحزنك أن حبال قومي     وقومك قد تباينتا انقطاعا



ومنه قوله تعالى: "كانتا رتقا"، و"دكتا" معناه: سوى جميعهما، كما يقال: "ناقة دكاء" إذا ضعفت فاستوت حدبتها مع ظهرها.

و"الواقعة": القيامة والطامة الكبرى، وقال بعض الناس: هي إشارة إلى صخرة بيت المقدس، وهذا ضعيف، و"انشقاق السماء" هو تفطرها وتميز بعضها من بعض، وذلك هو الوهن الذي ينالها، كما يقال في الجدارات البالية المشققة: واهية، و"الملك" اسم جنس يريد به الملائكة، وقال جمهور المفسرين: الضمير في "أرجائها" عائد على السماء، أي الملائكة على نواحيها وما لم به منها، و"الرجا". الجانب من الحائط والبئر ونحوه، ومنه قول الشاعر :


كأن لم تري قبلي أسيرا مقيدا

ولا رجلا يرمى به فى الرجوان



[ ص: 391 ] أي: يلقى في بئر فلا يجد ما أتمسك به، وقال الضحاك "أيضا" وابن جبير : الضمير في "أرجائها" عائد على الأرض وإن كان لم يتقدم لها ذكر قريب لأن القصة واللفظة تقتضيان إفهام ذلك، وفسر هذه الآية بما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة السماء الدنيا فيقفون صفا على حافات الأرض، ثم يأمر ملائكة السماء الثانية فيصفون خلفهم، ثم كذلك ملائكة كل سماء، فكلما بدا أحد من الجن والإنس وجد الأرض قد أحيط بها،وقالوا: فهذا تفسير هذه الآية، وهو أيضا معنى قوله تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا ، وهو أيضا تفسير قوله تعالى: يوم التناد يوم تولون مدبرين على قراءة من شد الدال، وهو تفسير قوله تعالى: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا .

واختلف الناس في الثمانية الحاملين للعرش -فقال ابن عباس - رضي الله عنهما-: هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحد عدتهم، وقال ابن زيد : هم ثمانية أملاك على هيئة الوعول، وقال جماعة من المفسرين: هم على هيئة الناس، أرجلهم تحت الأرض السفلى ورؤوسهم وكواهلهم فوق السماء، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة قواهم الله بأربعة سواهم" والضمير في قوله تعالى: "فوقهم" قيل:هو للملائكة الحملة، وقيل: للعالم كله، وكل قدرة كيفما تصورت فإنما هي بحول الله وقوته.

التالي السابق


الخدمات العلمية