الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع ، أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما ، ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب ، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان : منها ما يتعلق به وحده ، ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره ، أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر ، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الصبر فيندرج تحته أنواع :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أن يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف ، فقوله ( اصبروا ) يدخل تحته هذه الأقسام ، وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها ، وأما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير ، ويدخل فيه تحمل الأخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب ، ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء إليك كما قال : ( وأعرض عن الجاهلين ) [ الأعراف : 199 ] وقال : ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) [ الفرقان : 72 ] ويدخل فيه الإيثار على الغير كما قال : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) [ البقرة : 237 ] ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن المقدم عليه ربما وصل إليه بسببه ضرر ، ويدخل فيه الجهاد فإنه تعريض النفس للهلاك ، ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين ، وحل شكوكهم والجواب عن شبههم ، والاحتيال في إزالة تلك الأباطيل عن قلوبهم ، فثبت أن قوله ( اصبروا ) تناول كل ما تعلق به وحده ( وصابروا ) تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الإنسان وإن تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص ، والإنسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الإتيان بالصبر والمصابرة ، فلهذا قال ( ورابطوا ) ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للإنسان في كل فعل يفعله من داعية وغرض ، وجب أن يكون للإنسان في هذه المجاهدة غرض وباعث ، وذلك هو تقوى الله لنيل الفلاح والنجاح ، فلهذا قال : ( واتقوا الله لعلكم تفلحون ) وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى ، فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة ، وذلك عبارة عن الإتيان بالأفعال الحسنة ، والاحتراز عن الأفعال الذميمة ، ولما كانت الأفعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الأفعال الذميمة ، وذلك هو المراد بالمرابطة ، ثم ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات ، وذلك هو تقوى الله ، ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى الله على سائر القوى والأخلاق ، وهو الفلاح ، فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والأسرار الروحانية ، وأنها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع ، فهذا ما عندي فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 127 ] ولنذكر ما قاله المفسرون : قال الحسن : اصبروا على دينكم ولا تتركوه بسبب الفقر والجوع ، وصابروا على عدوكم ولا تفشلوا بسبب وقوع الهزيمة يوم أحد ، وقال الفراء : اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم فلا ينبغي أن يكون أصبر منكم ، وقال الأصم : لما كثرت تكاليف الله في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها ، ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد في هذه السورة أمرهم بمصابرة الأعداء .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله ( ورابطوا ) ففيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضا ، بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعدا لقتال الآخر ، قال تعالى : ( ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) [ الأنفال : 60 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة " .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ويدل عليه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال : لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : ما روي من حديث أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال : " فذلكم الرباط " ثلاث مرات .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه يمكن حمل اللفظ على الكل ، وأصل الرباط من الربط وهو الشد ، يقال لكل من صبر على أمر : ربط قلبه عليه ، وقال آخرون : الرباط هو اللزوم والثبات ، وهذا المعنى أيضا راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس ، ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد ، ويجوز أن يكون على الصلاة والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            قال الإمام رضي الله تعالى عنه : تم تفسير هذه السورة بفضل الله وإحسانه يوم الخميس أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية