الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( و ) أما غير ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما ليس مختصا به ، ولا جبليا ، ولا مترددا بين الجبلي وغيره ، ولا بيانا . فقسمان . أحدهما : ما علم حكمه ، وهو المشار إليه بقوله ( إن علمت صفته ) أي صفة حكمه ( من وجوب أو ندب أو إباحة ) وعلم صفة . حكم ذلك الفعل ، إما ( بنصه ) صلى الله عليه وسلم على ذلك الحكم ، بأن يقول : هذا الفعل واجب علي أو مستحب [ ص: 217 ] أو مباح ، أو يذكر خاصة من خواص أحد هذه الأحكام ، أو نحو ذلك ( أو تسويته ) صلى الله عليه وسلم الفعل الذي ما علمنا صفة حكمه ( بمعلومها ) أي بفعل معلوم صفة حكمه ، بأن يقول : هذا مثل كذا ، أو هذا مساو لفعل كذا ونحو ذلك ( أو ) تعلم صفة حكم الفعل ( بقرينة تبين ) صفة ( أحدها ) أي أحد الأحكام الثلاثة المتقدمة . فمن القرائن الدالة على الوجوب : فعل الأذان والإقامة للصلاة ، فإنه قد تقرر في الشرع أن الأذان والإقامة من أمارات الوجوب ، ولهذا لا يطلبان في صلاة عيد ولا كسوف ، ولا استسقاء . فيدلان على وجوب الصلاة التي يؤذن لها ويقام . ومنها : قطع اليد في السرقة ، والختان فإن الجرح والإبانة ممنوع منهما ، فجوازهما يدل على وجوبهما . ومن قرائن الوجوب أيضا : أن يكون الفعل قضاء لما علم وجوبه . وأما الندب : فكقصد القربة مجردا عن دليل وجوب وقرينة . وأما الإباحة : فكالفعل الذي ظهر بالقرينة أنه لم يقصد به القربة ( أو ) تعلم صفة حكم الفعل ( بوقوعه بيانا لمجمل ) كقطع يد السارق من الكوع ( أو ) تعلم صفة حكم الفعل بوقوعه ( امتثالا لنص يدل على حكم ) من إيجاب أو ندب ، فيكون هذا الفعل تابعا لأصله الذي هو مدلول النص من ذلك ، فكل فعل من ذلك علمت صفة حكمه في حقه صلى الله عليه وسلم ( فأمته مثله ) لكن إن أتى بالفعل بيانا لندب أو إباحة ، فقد أتى بواجب من جهة التشريع ، أي تبيين الحكم لوجوبه عليه . فيكون للفعل حينئذ جهتان : جهة وجوب من حيث وجوب التشريع ، وجهة ندب أو إباحة من حيث تعلقه بفعل الأمة . والقسم الثاني من فعله صلى الله عليه وسلم الذي ليس بمختص به ، ولا بجبلي ، ولا متردد بين الجبلي وغيره ، ولا ببيان : هو ما أشير إليه بقوله ( وإلا ) أي وإن لم تعلم صفة حكم فعله صلى الله عليه وسلم الذي ليس بواحد مما ذكر .

فهو نوعان . أحدهما : ما أشير إليه بقوله ( فإن تقرب به ) أي قصد به النبي صلى الله عليه وسلم القربة ( ف ) هو واجب علينا وعليه عند الإمام أحمد رضي الله عنه [ ص: 218 ] وأكثر أصحابه ، وهو الصحيح عن الإمام مالك رضي الله عنه ، واختاره ابن السمعاني .

وقال : هو أشبه بمذهب الشافعي . وعن الإمام أحمد رواية ثانية أنه مندوب .

قال المجد : نقلها إسحاق بن إبراهيم والأثرم وجماعة بألفاظ صريحة ، وحكي عن الشافعي والظاهرية والمعتزلة ، وعنه رواية ثالثة بالوقف ، حتى يقوم دليل على حكمه . اختاره أبو الخطاب وأكثر المتكلمين والأشعرية . وصححه القاضي أبو الطيب . وحكي عن جمهور المحققين . والنوع الثاني : هو ما أشير إليه بقوله ( وإلا ) أي وإن لم يتقرب بالفعل الذي لم تعلم صفة حكمه ( ف ) هو ( مباح ) عند الأكثر . قال المجد في المسودة : فعل النبي صلى الله عليه وسلم يفيد الإباحة إن لم يكن فيه معنى القربة في قول الجمهور . وقيل : واجب ، واختاره جماعة .

وقيل : مندوب ، واختاره جماعة أيضا . واستدل للقول بالوجوب فيما إذا قصد به القربة بقوله تعالى { واتبعوه } وبقوله تعالى ( { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } ) والفعل أمر . وبقوله تعالى ( { وما آتاكم الرسول فخذوه } ) وبقوله تعالى ( { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ) أي تأسوا به . وبقوله تعالى ( { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } ) ومحبته واجبة . فيجب لازمها ، وهو اتباعه ، وبقوله تعالى ( { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج } ) فلولا الوجوب لما رفع تزويجه الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم . { ولما خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم نعله في الصلاة خلعوا نعالهم } . رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم . وروي مرسلا ، { ولما أمرهم بالتحلل في صلح الحديبية : تمسكوا } . رواه البخاري ، { وسأله صلى الله عليه وسلم رجل عن الغسل بلا إنزال . فأجاب بفعله } . رواه مسلم ، ولأن فعله كقوله في بيان مجمل وتخصيص وتقييد ، ولأن في مخالفته تنفيرا وتركا للحق ، لأن فعله حق ( ولم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ) الفعل ( المكروه ليبين به الجواز ) لأنه يحصل فيه التأسي ( بل [ ص: 219 ] فعله ينفي الكراهة ) قاله القاضي وغيره من أصحابنا وغيرهم ، ومرادهم ( حيث لا معارض له ) وإلا فقد يفعل غالبا شيئا ، ثم يفعل خلافه لبيان الجواز . وهو كثير عندنا ، وعند أرباب المذاهب ، كقولهم في ترك الوضوء مع الجنابة لنوم أو أكل أو معاودة وطء ، تركه لبيان الجواز ، وفعله غالبا للفضيلة ( وتشبيكه ) بين أصابعه ( بعد سهوه ) في حديث ذي اليدين في المسجد ( لا ينفيها ) أي لا ينفي الكراهة ( لأنه نادر ) وقال النووي في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم مرة ومرتين ، قال العلماء : إن ذلك كان أفضل في حقه من التثليث لبيان التشريع

التالي السابق


الخدمات العلمية