الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى

هذه الآيات كلها إنما نزلت في أبي جهل بن هشام ، ثم كادت هذه الآية أن تصرح به في قوله تعالى: "يتمطى" فإنها كانت مشية بني مخزوم، وكان أبو جهل يكثر منها، وقوله تعالى: "فلا صدق ولا صلى" تقديره: فلم يصدق ولم يصل، وهذا نحو قول الشاعر


فأي خميس فإنا لا أبانا نهابه وأسيافنا يقطرن من كبشه دما؟

[ ص: 482 ] وقول الآخر :


إن تغفر اللهم تغفر جما     وأي عبد لك لا ألما؟



فـ "لا" في الآية نافية لا عاطفة. و"صدق" معناه: برسالة الله ودينه، وذهب قوم إلى أنه من الصدقة والأول أصوب. و"يتمطى" معناه: يمشي المطيطا، وهي مشية بتبختر، قال زيد بن أسلم : كانت مشية بني مخزوم، وهي مأخوذة من المطا وهو الظهر، لأنه ينثني فيها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مشت أمتي المطيطا، وخدمتهم الروم وفارس، سلط بعضهم على بعض"، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أبي جهل بن هشام .

وقوله تعالى: أولى لك فأولى وعيد ثان، ثم كرر ذلك تأكيدا، والمعنى: أولى لك الازدجار والانتهاء، وهو مأخوذ من "ولى"، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجرا، ومنه قوله تعالى: فأولى لهم طاعة وقول معروف ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبب أبا جهل يوما في البطحاء وقال له: إن الله يقول لك: أولى لك فأولى فنزل القرآن على نحوها، وفي شعر الخنساء: [ ص: 483 ]


هممت بنفسي كل الهموم     فأولى لنفسي أولى لها



وقوله تعالى: "أيحسب" توبيخ وتوقيف، و"سدى" معناه: مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ثم قرر تعالى على أحوال ابن آدم في يد الله التي إذا تؤملت لم ينكر معها جواز البعث عاقل. وقرأ الجمهور: "ألم يك" بالياء، وقرأ الحسن: "ألم تك" بالتاء من فوق، و"النطفة" القطعة من الماء، يقال ذلك للقليل والكثير. والمني معروف. وقرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو عمرو بخلاف- وابن محيصن، والجحدري، وسلام، ويعقوب: "يمنى" بالياء، يراد بذلك المني، ويحتمل أن يكون "يمنى" من قولك: "أمنى الرجل"، ويحتمل أن يكون من قولك: "مني الله الخلق"، فكأنه تعالى قال: من مني يخلق، وقرأ جمهور السبعة، والناس: تمنى" بالتاء، يراد بذلك النطفة، و"تمنى" تحتمل الوجهين اللذين ذكرنا. و"العلقة" القطعة من الدم; لأن الدم هو العلق.

وقوله تعالى: "فخلق فسوى" معناه: فخلق الله تعالى منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة، فسواه شخصا مستقلا، وفي مصحف ابن مسعود رضي الله عنه: "يخلق" بالياء فعلا مستقبلا. و"الزوجين": النوعين ويحتمل أن يريد المزدوجين من البشر.

[ ص: 484 ] ثم وقف تعالى توقيف توبيخ وإقامة حجة بقوله تعالى: أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ، وقرأ الجمهور بفتح الياء الأخيرة من "يحيي"، وقرأ طلحة بن سليمان، والفياض بن غزوان بسكونها، وهي تحذف من اللفظ لسكون اللام من "الموتى". ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، وبلى"، ويروى أنه كان يقول: "بلى" فقط.

كمل تفسير سورة [القيامة] والحمد لله رب العالمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية