الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم

قوله تعالى: من أي شيء خلقه استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الإنسان منه ، وهي عبارة تصلح للتحقير والتعظيم، والقرينة تبين الغرض، وهذا نظير قوله تعالى: لأي يوم أجلت ليوم الفصل و"النطفة" المشار إليها ماء الرجل وماء المرأة، وقرأ جمهور الناس: "فقدره" بشد الدال، وقرأ بعض القراء: "فقدره" بتخفيفها، والمعنى: جعله بقدر واحد معلوم من الأعضاء والخلق والأجل وغير ذلك من إنجابه حسب إرادته تعالى في إنسان إنسان.

واختلف المتأولون في معنى قوله: ثم السبيل يسره فقال ابن عباس ، وقتادة ، وأبو صالح ، والسدي : هي سبيل الخروج من بطن المرأة ورحمها، وقال [ ص: 540 ] الحسن ما معناه: إن السبيل هي سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان، وتيسره له هو هبة العقل، وقال مجاهد : أراد السبيل عامة، اسم الجنس في "هدى وضلال"، أي: يسر قوما لهذا وقوما لهذا كقوله تعالى: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا .

وقوله تعالى: ثم أماته فأقبره معناه: أمر أن يجعل له قبر، وفي ذلك تكريم لئلا يطرح كسائر الحيوان، والقابر هو الذي يتناول جعل الميت في قبره، والمقبر الذي يأمر بقبر الميت، ويقرره. و"أنشره" معناه: أحياه، يقال: نشر الميت وأنشره الله، وقوله تعالى: إذا شاء يريد: إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه، وهو يوم القيامة، وقرأ بعض القراء: "إذا شاء أنشره" بتحقيق الهمزتين، وقرأ جمهور الناس: "إذا شاء أنشره" بمدة وتسهيل الهمزة الأولى، وقرأ شعيب بن أبي حمزة : "إذا شاء نشره" ، وقرأ الأعمش : "إذا أنشره" بهمزة واحدة.

وقوله تعالى: كلا لما يقض ما أمره رد لما عسى أن للكفار من الاعتراضات في هذه الأقوال المسرودة، ونفي مؤكد لطاعة الإنسان لربه، وإثبات أنه ترك حق الله تعالى، ولم يقض ما أمره، قال مجاهد : لا يقضي أحد أبدا ما افترض عليه. ثم أمر تعالى الإنسان بالعبرة والنظر إلى طعامه والدليل فيه، وذهب أبي بن كعب ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وغيرهم إلى أن المراد إلى طعامه إذا صار رجيعا ليتأمل حيث تصير عاقبة الدنيا، وعلى أي شيء يتفانى أهلها، وتستدير رحاها، وهذا نظير ما روي عن ابن عمر أن الإنسان إذا أحدث فإن ملكا يأخذ بناصيته عند فراغه فيرد بصره إلى نحوه موقفا له ومعجبا، فينفع ذلك من له عقل، وذهب الجمهور إلى أن معنى الآية: فلينظر إلى مطعوماته وكيف يسرها الله تعالى له بهذه الوسائط المذكورة من صب الماء وشق الأرض، ويروى أن رجلا أضافه عابد، فقدم إليه رغيفا قفارا فكأن الرجل [ ص: 541 ] استخشنه فقال له: كله فإن الله تعالى لم ينعم به ويكمله حتى سخر فيه ثلاثمائة وستين عاملا الماء والريح والشمس ثلاثة من ذلك.

وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : "أنا صببنا" بفتح الألف على البدل، وهي قراءة الأعرج ، وابن وثاب ، والأعمش ، ورد على هذا الإعراب قوم بأن الثاني ليس من الأول وليس كما ردوا; لأن المعنى: فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه، فترتب البدل وصح، "وأنا" في موضع خفض، وقرأ الجمهور: "إنا صببنا" بكسر الألف على استئناف تفسير الطعام، وقرأ بعض القراء: "أنى" بمعنى كيف، ذكرها أبو حاتم ، وصب الماء هو المطر، وشق الأرض هو بالنبات.

و"الحب": جمع حبة -بفتح الحاء- وهو كل ما يتخذه الناس ويربونه كالقمح والشعير ونحوه، والحبة -بكسر الحاء- كل ما ينبت من البذور ولا يحتفل به ولا هو بمتخذ، و"القضب" قال بعض اللغويين: هي الفصافص، وهذا عندي ضعيف، لأن الفصافص هي للبهائم، فهي داخلة في "الأب"، وقال أبو عبيدة : القضب: الرطبة، وقال الحسن: هو العلف، وأهل مكة يسمون القت القضب، قال ثعلب: لأنه يقضب كل يوم، والذي أقوله: إن القضب هنا هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا من النبات كالبقول والهليون ونحوه، فإنه من المطعوم جزء عظيم، ولا ذكر له في الآية إلا في هذه اللفظة.

و"الغلب" الغلاظ الناعمة القوية، و"الحديقة" الشجر الذي قد أحدق بجدار أو نحوه، و"الأب": المرعى، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد ، وقتادة ، وقال الضحاك : الأب: التبن، وفي اللفظة غرابة، وقد توقف في تفسيرها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، و"متاعا" نصب على المصدر، والمعنى: تتمتعون به أنتم وأنعامكم، فابن آدم في السبعة المذكورة والأنعام في الأب.

التالي السابق


الخدمات العلمية