الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون

لما ذكر عاقبة إضلالهم وصدهم السائلين عن القرآن والإسلام في الآخرة أتبع بالتهديد بأن يقع لهم ما وقع فيه أمثالهم في الدنيا من الخزي والعذاب مع التأييس من أن يبلغوا بصنعهم ذلك مبلغ مرادهم ، وأنهم خائبون في صنعهم كما خاب من قبلهم الذين مكروا برسلهم .

ولما كان جوابهم السائلين عن القرآن بقولهم هو أساطير الأولين مظهرينه بمظهر النصيحة والإرشاد ، وهم يريدون الاستبقاء على كفرهم ، سمي ذلك [ ص: 134 ] مكرا بالمؤمنين ، إذ المكر إلحاق الضر بالغير في صورة تمويهه بالنصح والنفع ، فنظر فعلهم بمكر من قبلهم ، أي من الأمم السابقة الذين مكروا بغيرهم مثل قوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم فرعون ، قال تعالى في قوم صالح ومكروا مكرا ومكرنا مكرا الآية ، وقال وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون .

فالتعريف بالموصول في قوله تعالى الذين من قبلهم مساو للتعريف بلام الجنس .

ومعنى فأتى الله بنيانهم استعارة بتشبيه القاصد للانتقام بالجائي نحو المنتقم منه ، ومنه قوله تعالى فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا .

وقوله تعالى فأتى الله بنيانهم من القواعد تمثيل لحالات استئصال الأمم ، فالبنيان مصدر بمعنى المفعول ، أي المبني ، وهو هنا مستعار للقوة والعزة والمنعة وعلو القدر .

وإطلاق البناء على مثل هذا وارد في فصيح الكلام ، قال عبدة بن الطبيب :


فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قـوم تـهـدمـا



وقالت سعدة أم الكميت بن معروف :

بنى لك معروف بناء هدمته     وللشرف العادي بان وهادم



و من القواعد متعلق بـ أتى ، ( ومن ) ابتدائية ، ومجرورها هو مبدأ الإتيان الذي هو بمعنى الاستئصال ، فهو في معنى هدمه .

والقواعد : الأسس والأساطين التي تجعل عمدا للبناء يقام عليها السقف ، وهو تخييل أو ترشيح ، إذ ليس في الكلام شيء يشبه بالقواعد .

والخرور : السقوط والهوي ، ففعل خر مستعار لزوال ما به المنعة نظير قوله تعالى يخربون بيوتهم بأيديهم . [ ص: 135 ] والسقف : حقيقته غطاء الفراغ الذي بين جدران البيت ، يجعل على الجدران ، وتكون من حجر ومن أعواد ، وهو هنا مستعار لما استعير له البناء .

و من فوقهم تأكيد لجملة فخر عليهم السقف .

ومن مجموع هذه الاستعارات تتركب الاستعارة التمثيلية ، وهي تشبيه هيئة القوم الذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة وأزال تلك العزة بهيئة قوم أقاموا بنيانا عظيما ذا دعائم وآووا إليه ، فاستأصله الله من قواعده فخر سقف البناء دفعة على أصحابه ; فهلكوا جميعا ، فهذا من إبداع التمثيلية ; لأنها تنحل إلى عدة استعارات .

وجملة وأتاهم العذاب عطف على جملة فأتى الله بنيانهم من القواعد ، و ( أل ) في العذاب للعهد فهي مفيدة مضمون قوله من فوقهم مع زيادة قوله تعالى من حيث لا يشعرون ، فباعتبار هذه الزيادة وردت معطوفة لحصول المغايرة وإلا فإن شأن المؤكدة أن لا تعطف ، والمعنى : أن العذاب المذكور حل بهم بغتة وهم لا يشعرون فإن الأخذ فجأة أشد نكاية لما يصحبه من الرعب الشديد بخلاف الشيء الوارد تدريجا فإن النفس تتلقاه بصبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية