الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والتفت الساق بالساق ) قال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد : استعارة لشدة كرب الدنيا في آخر يوم منها ، وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها ; لأنه بين الحالين قد اختلطا به ، كما يقول : شمرت الحرب عن ساق ، استعارة لشدتها . وقال ابن المسيب والحسن : هي حقيقة ، والمراد ساقا الميت عندما لفا في الكفن . وقال الشعبي وقتادة وأبو مالك : التفافهما لشدة المرض ; لأنه يقبض ويبسط ويركب هذه على هذه . وقال الضحاك : أسوق حاضريه من الإنس والملائكة . هؤلاء يجهزونه إلى القبر ، وهؤلاء يجهزون روحه إلى السماء . وقيل : التفافهما : موتهما أولا ، إذ هما أول ما تخرج الروح منهما فتبردان قبل سائر الأعضاء . وجواب ( إذا ) محذوف ، تقديره : وجد ما عمله في الدنيا من خير وشر . ( إلى ربك يومئذ المساق ) المرجع والمصير ، و ( المساق ) مفعل من السوق ، فهو اسم مصدر ، إما إلى جنة ، وإما إلى نار . ( فلا صدق ولا صلى ) . الجمهور أنها نزلت في أبي جهل وكادت أن تصرح به في قوله : ( يتمطى ) . فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم ، وكان يكثر منها . وتقدم أيضا أنه قيل في قوله : ( أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ) أنها نزلت في أبي جهل . وقال الزمخشري : يعني الإنسان في قوله : ( أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ) . ألا ترى إلى قوله : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) وهو معطوف على قوله : ( يسأل أيان يوم القيامة ) أي : لا يؤمن بالبعث ( فلا صدق ) بالرسول والقرآن ، ( ولا صلى ) . ويجوز أن يراد : فلا صدق ماله ، يعني فلا زكاه . انتهى . وكون ( فلا صدق ) معطوفا على قوله : ( يسأل ) فيه بعد ، ولا هنا نفت الماضي ، أي : لم يصدق ولم يصل . وفي هذا دليل على أن لا تدخل على الماضي فتنصبه ، ومثله قوله :


وأي خميس لا أتانا نهابه وأسيافنا يقطرن من كبشة دما



وقال الراجز :


إن تغفر اللهم تغفر جما     وأي عبد لك لا ألما



وصدق : معناه برسالة الله . وقال قوم : هو من الصدقة ، وهذا الذي يظهر نفى عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب ، كقوله : ( لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين ) . وحمل ( فلا صدق ) على نفي التصديق بالرسالة ، فيقتضي أن يكون ( ولكن كذب ) تكرارا . ولزم أن يكون ( لكن ) استدراكا بعد ( ولا صلى ) لا بعد ( فلا صدق ) ; لأنه كان يتساوى الحكم في ( فلا صدق ) وفي ( كذب ) ، ولا يجوز ذلك ، إذ لا يقع لكن بعد متوافقين . ( وتولى ) : أعرض عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذب بما جاء به . ( ثم ذهب إلى أهله ) أي : قومه ، ( يتمطى ) : يبختر في مشيته . روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبب أبا جهل يوما في البطحاء وقال له : ( إن الله يقول لك أولى فأولى لك ) فنزل القرآن على نحوها ، وقالت الخنساء :


هممت بنفسي كل الهمو     م فأولى لنفسي أولى لها



وتقدم الكلام على ( أولى ) شرحا وإعرابا في قوله تعالى : ( فأولى لهم طاعة وقول معروف ) في سورة القتال ، وتكراره هنا مبالغة في التهديد والوعيد . ولما ذكر حاله في الموت وما كان من حاله في الدنيا ، قرر له أحواله في بدايته ليتأملها ، فلا ينكر معها جواز البعث من القبور . وقرأ الجمهور : ( ألم يك ) بياء الغيبة . [ ص: 391 ] والحسن : بتاء الخطاب على سبيل الالتفات . وقرأ الجمهور : تمنى ، أي : النطفة يمنيها الرجل . وابن محيصن والجحدري وسلام ويعقوب وحفص وأبو عمر : بخلاف عنه بالياء ، أي : يمني هو ، أي : المني ، فخلق الله منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة . ( فسوى ) أي : سواه شخصا مستقلا . ( فجعل منه الزوجين ) أي : النوعين أو المزدوجين من البشر ، وفي قراءة زيد بن علي : الزوجان بالألف ، وكأنه على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع أحواله . وقرأ أيضا : يقدر مضارعا . والجمهور : ( بقادر ) اسم فاعل مجرور بالباء الزائدة . ( أليس ذلك ) أي : الخالق المسوي ، ( بقادر ) ، وفيه توقيف وتوبيخ لمنكر البعث . وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان : بسكون الياء من قوله : ( أن يحيي ) وهي حركة إعراب لا تنحذف إلا في الوقف ، وقد جاء في الشعر حذفها . وقرأ الجمهور : بفتحها . وجاء عن بعضهم ( يحيي ) بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء . قال ابن خالويه : لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام ( يحيي ) ، قالوا لسكون الياء الثانية ، ولا يعتدون بالفتحة في الياء ; لأنها حركة إعراب غير لازمة . وأما الفراء فاحتج بهذا البيت :


تمشي بشدة بينها فتعيي



يريد : فتعيي ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية