الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                عبد بين رجلين قال أحدهما : إن كنت دخلت هذه الدار أمس فأنت حر ، وقال الآخر : إن لم تكن دخلتها أمس فأنت حر ، ولا يدري أكان دخل أو لم يدخل ؟ عتق نصف العبد بينهما ويسعى في نصف قيمته بين الموليين موسرين أو معسرين في قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف : إن كانا معسرين سعى في نصف قيمته بينهما ، وإن كانا موسرين فلا يسعى لأحد ، وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا سعى للمعسر في ربع قيمته ولا يسعى للموسر .

                                                                                                                                وقال محمد : إن كانا موسرين لا يسعى ، وإن كانا معسرين يسعى لهما في جميع قيمته .

                                                                                                                                وجه قول محمد أن كل واحد منهما يدعي على صاحبه أنه أعتقه ; فصار كشهادة كل واحد منهما على صاحبه ; ولأن من عتق عليه نصف العبد مجانا بغير سعاية مجهول ; لأن الحانث منهما مجهول ، فكان من يقضى عليه بسقوط نفس السعاية مجهولا فلا يمكن القضاء به ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن نصف العبد قد عتق بيقين ; لأن أحد الشريكين حانث بيقين إذ العبد لا يخلو من أن يكون دخل الدار أو لم يدخل ، إذ لا واسطة بين الدخول والعدم وليس أحدهما بتعيينه للحنث أولى من الآخر ، والمقضي له بالعتق يتعين فيقسم نصف العتق بينهما فإذا أعتق نصف العبد بيقين ، تعذر إيجاب كل السعاية عليه فتجب نصف السعاية ، ثم على أصل أبي حنيفة يسعى في نصف قيمته بينهما سواء كانا موسرين أو معسرين ; لأن ضمان السعاية عنده لا يختلف باليسار والإعسار ، وعند أبي يوسف يختلف فإن كانا معسرين سعى لهما ، وإن كانا موسرين لا يسعى لهما ، وإن كانا أحدهما موسرا والآخر معسرا يسعى للمعسر ولا يسعى للموسر ، وما ذكره محمد أن هذا كشهادة كل واحد منهما على الآخر غير سديد ; لأن ههنا تيقنا بحرية نصف العبد لما بينا ، وفي مسألة الشهادة لم نستيقن بالحرية ; لاحتمال أن تكون الشهادتان كاذبتين .

                                                                                                                                وأما قوله : إن الذي يقضى عليه بالعتق بغير سعاية مجهول ، فنعم لكن هذا [ ص: 98 ] لا يمنع القضاء إذا كان المقضي له معلوما ; لأن المقضي له إذا كان معلوما ، يمكن رفع الجهالة التي من جانب المقضي له بالقسمة والتوزيع ، وإذا كان مجهولا لا يمكن .

                                                                                                                                فإن حلف رجلان على عبدين كل واحد منهما لأحدهما ، فقال أحدهما لعبده : إن كان زيد قد دخل هذه الدار اليوم فأنت حر ، وقال الآخر لعبده : إن لم يكن زيد دخل هذه الدار اليوم فأنت حر ، فمضى اليوم ولا يدري أدخل الدار أم لم يدخل ؟ لم يعتق واحد من العبدين ; لأن ههنا المقضي له وعليه كل واحد منهما مجهول ، ولا وجه للقضاء عند تمكن الجهالة في الطرفين ، وفي الفصل الأول المقضي له بالعتق متيقن معلوم والقضاء في مثله جائز ، كمن أعتق واحدة من جواريه العشر ثم جهلها ، وعلى هذا قال أبو يوسف في عبدين بين رجلين قال أحدهما لأحد العبدين : أنت حر إن لم يدخل فلان هذه الدار اليوم وقال الآخر للعبد الآخر : إن دخل فلان هذه الدار اليوم فأنت حر ، فمضى اليوم وتصادقا على أنهما لا يعلمان دخل أو لم يدخل ؟ فإن هذين العبدين يعتق من كل واحد منهما ربعه ، ويسعى في ثلاثة أرباع قيمته بين الموليين نصفين ، وقال محمد : قياس قول أبي حنيفة أن يسعى كل واحد منهما في جميع قيمته بينهما نصفين ، وجه قول أبي يوسف أن نصف أحد العبدين غير عين قد عتق بيقين ; لأن فلانا لا يخلو من أن يكون دخل الدار اليوم أو لم يكن دخل فكان نصف أحدهما حرا بيقين ، وليس أحدهما بذلك أولى من الآخر فيقسم نصف الحرية بينهما ، فيعتق من كل واحد منهما ربعه ويسعى كل واحد منهما في ثلاثة أرباع قيمته للتخريج إلى العتق كما في المسألة المتقدمة إلا أن هناك العبد واحد فيعتق منه نصفه ويسعى في النصف الباقي ، وههنا عبدان فيعتق نصف أحدهما غير عين ويقسم بين الموليين فيعتق على كل واحد منهما الربع ، ويسعى كل واحد منهما في الباقي وذلك ثلاثة أرباع قيمته .

                                                                                                                                وجه قياس قول أبي حنيفة أن المقضي له وعليه مجهولان ولا سبيل إلى القضاء بالحرية مع جهالتهما ، فيسعى كل واحد منهما في جميع قيمته بخلاف المسألة المتقدمة ; لأن ثمة المقضي له غير مجهول ، ومن هذا النوع ما ذكره ابن سماعة عن أبي يوسف في عبد بين رجلين زعم أحدهما أن صاحبه أعتقه منذ سنة وأنه هو أعتقه اليوم ، وقال شريكه : لم أعتقه وقد أعتقت أنت اليوم ، فاضمن لي نصف القيمة لعتقك فلا ضمان على الذي زعم أن صاحبه أعتقه منذ سنة ; لأن قوله : أنا أعتقته اليوم ليس بإعتاق بل هو إقرار بالعتق وأنه حصل بعد إقراره على شريكه بالعتق فلم يصح ، وكذا لو قال : أنا أعتقته أمس وأعتقه صاحبي منذ سنة ، وإن لم يقر بإعتاق نفسه لكن قامت عليه بينة أنه أعتقه أمس فهو ضامن لشريكه ; لظهور الإعتاق منه بالبينة فدعواه على شريكه العتق المتقدم لا يمنع ظهور الإعتاق منه بالبينة ويمنع ظهوره بإقراره ، والله عز وجل الموفق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية