الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فعل القرآن في أنفس المؤمنين

                          كان كل من يدخل في الإسلام قبل الهجرة يلقن ما نزل من القرآن - ليعبد الله بتلاوته - ويعلم الصلاة ولم يفرض في مكة من أركان الإسلام غيرها ، فيرتل ما يحفظه في صلاته اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ فرض الله عليه التهجد من أول الإسلام قال تعالى في أول سورة المزمل - التي قيل إنها أول ما نزل بعد فترة الوحي وبعدها المدثر وقيل بالعكس - وتقدم الجمع بين الأقوال ( ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ) ( 73 : 1 - 4 ) ثم قال في آخرها : ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) ( 73 : 20 ) أي في صلاة الليل وغيرها ، ثم ذكر الأعذار المانعة من قيام الليل كله ما كان منها في ذلك العهد كالمرض والسفر ، وما سيكون بعد سنين وهو القتال في سبيل الله .

                          ومما ورد في صفة الصحابة - رضي الله عنهم - أن الذي كان يمر ببيوتهم ليلا يسمع منها مثل دوي النحل من تلاوة القرآن ، وقد غلا بعضهم فكان يقوم الليل كله حتى شكا منهم نساؤهم فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، وكان هو يصلي في كل ليلة ثلاث عشرة [ ص: 170 ] ركعة يوتر بواحدة منهن ، وما قبلها مثنى مثنى ، وكان هو يطيل فيهن حتى تورمت قدماه من طول القيام فأنزل الله عليه مرفها ومسليا ( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) ( 20 : 1 و 2 ) .

                          فتربية الصحابة التي غيرت كل ما كان بأنفسهم من مفاسد الجاهلية وزكتها تلك التزكية التي أشرنا إليها آنفا وأحدثت أعظم ثورة روحية اجتماعية في التاريخ إنما كانت بكثرة تلاوة القرآن في الصلاة وفي غير الصلاة وتدبره ، وربما كان أحدهم يقوم الليلة بآية واحدة يكررها متدبرا لها ، وكانوا يقرءونه مستقلين ومضطجعين كما وصفهم الله بقوله : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) ( 3 : 191 ) وأعظم ذكر الله تلاوة كتابه المشتمل على ذكر أسمائه الحسنى وصفاته المقدسة وأحكامه وحكمه ، وسننه في خلقه وأفعاله في تدبير ملكه ، ولو كان القرآن ككتب القوانين والفنون لما كان لتلاوته كل ذلك التأثير في قلب الطباع ، وتغيير الأوضاع ، بل لكانت تلاوته تمل فتترك ، فأسلوب القرآن الذي وصفناه آنفا من أعظم أنواع إعجازه اللغوي ، وتأثيره الروحي ، ومن ارتاب في هذا فلينظر في المسائل التي تشتمل عليها السورة منه وليحاول كتابتها نفسها أو مثلها بأسلوب تلك السورة ونظمها أو أسلوب سورة أخرى ، كالسور التي يتكرر فيها الموضوع الواحد بالإجمال الموجز تارة وببعض التفصيل تارة وبالإطناب فيه أخرى ، - كالاعتبار بقصص الرسل مع أقوامهم في سور المفصل ( كالذاريات والقمر والحاقة ) وفيما فوقها ( كالمؤمنون والشعراء والنمل ) وفيما هو أطول منها ( كالأعراف وهود ) - ثم لينظر ما يفضي إليه عجزه من السخرية .

                          وقد بين بعض علماء الاجتماع في هذا العصر أن تكرار الدعوات الدينية والسياسية والاجتماعية هي التي تثير الجماعات وتدعهم إلى الانهماك والتفاني فيها دعا ، وما كان محمد ولا أحد من أهل عصره يعلمون هذا ، ولكن الله يعلم من طباع الجماعات والأقوام فوق ما يعلمه حكماء عصرنا وسائر الأعصار ، وإنما القرآن كلامه ، وليس فيه من التكرار إلا ما له أكبر الشأن في انقلاب الأفكار ، وتحويل ما في الأنفس من العقائد والأخلاق إلى خير منها ، وهو ما لا يمكن إحداث الانقلاب الإصلاحي بدونه كما تعلم من التفصيل الآتي .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية