الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في الكفاءة ( الكفاءة في النكاح معتبرة ) قال صلى الله عليه وسلم { ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ، ولا يزوجن إلا من الأكفاء } [ ص: 292 - 293 ] ولأن انتظام المصالح بين المتكافئين عادة ، لأن الشريفة تأبى أن تكون مستفرشة للخسيس فلا بد من اعتبارها ، بخلاف جانبها ; لأن الزوج مستفرش فلا تغيظه دناءة الفراش

التالي السابق


( فصل في الكفاءة )

الكفء المقاوم ويقال لا كفاء له بالكسر . ولما كانت الكفاءة شرط اللزوم على الولي إذا عقدت بنفسها حتى كان له الفسخ عند عدمها كانت فرع وجود الولي وهو بثبوت الولاية ، فقدم بيان الأولياء ومن تثبت له ثم أعقبه فصل الكفاءة ( قوله معتبرة ) قالوا : معناه معتبرة في اللزوم على الأولياء حتى إن عند عدمها جاز للولي الفسخ ثم استدل بقوله صلى الله عليه وسلم { ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء [ ص: 292 ] ولا يزوجن إلا من الأكفاء } فهاهنا نظران في إثبات حجيته ، ثم وجه دلالته على الدعوى على الوجه المذكور من معناها .

أما الأول فهو حديث ضعيف لأن في سنده مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطاة والحجاج مختلف فيه ومبشر ضعيف متروك نسبه أحمد إلى الوضع وسيأتي تخريجه لكنه حجة بالتضافر والشواهد ، فمن ذلك ما روى محمد في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن رجل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء . ومن ذلك ما رواه الحاكم وصححه من حديث علي أنه عليه الصلاة والسلام قال له : { يا علي ثلاث لا تؤخرها : الصلاة إذا أتت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت كفؤا } ، وقول الترمذي فيه لا أرى إسناده متصلا منتف بما ذكرناه من تصحيح الحاكم . وقال في سنده سعيد بن عبد الله الجهني مكان قول الحاكم سعيد بن عبد الرحمن الجمحي فلينظر فيه .

وما عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم { تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء } روي ذلك من حديث عائشة وأنس وعمر من طرق عديدة فوجب ارتفاعه إلى الحجية بالحسن لحصول الظن بصحة المعنى وثبوته عنه صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا كفاية ، ثم وجدنا في شرح البخاري للشيخ برهان الدين الحلبي ذكر أن البغوي قال : إنه حسن ، وقال فيه رواه ابن أبي حاتم من حديث جابر عن عمرو بن عبد الله الأودي بسنده ثم أوجدنا بعض أصحابنا صورة السند عن الحافظ قاضي القضاة العسقلاني الشهير بابن حجر .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وكيع عن عباد بن منصور قال : حدثنا القاسم بن محمد قال : سمعت جابرا رضي الله عنه يقول : قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { ولا مهر أقل من عشرة } من الحديث الطويل . قال الحافظ : إنه بهذا الإسناد حسن ولا أقل منه .

وأغنى عما استدل به بعضهم من طريق الدلالة فقال : إذا كانت الكفاءة معتبرة في الحرب وذلك في ساعة ففي النكاح وهو للعمر أولى . وذكر { ما وقع في غزوة بدر أنه لما برز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة ، وخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة قالوا لهم : من أنتم ؟ قالوا : رهط من الأنصار ، فقالوا : أبناء قوم كرام ، ولكنا نريد أكفاءنا من قريش ، فقال صلى الله عليه وسلم : صدقوا ، ثم أمر حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث } إلخ .

فأما قوله صلى الله عليه وسلم صدقوا فلم أره ، والذي في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق أنهم قالوا لهم : أنتم أكفاء كرام ، ولكنا نريد بني عمنا . وفي رواية : { ما لنا بكم من حاجة ، ثم نادى مناديهم يا محمد أخرج لنا أكفاءنا من قريش ، فقال صلى الله عليه وسلم : قم يا حمزة وقم يا علي } إلخ .

ونحن نقطع أن عدو الله لو برز للمسلمين يريد إطفاء نور الله وهو من أكابر أنسابهم فخرج إليهم عبد من المسلمين فقتله كان مشكورا عند الله وعند المؤمنين ولم يزده ذلك النسب إلا بعدا . نعم الكفاءة المطلوبة هنا كفاءة الشدة فينبغي أن يخرج إليه كفؤه فيها ; لأن المقصود نصرة الدين ولو كان عبدا ، وكلامه إنما يفيد في النسب ، وإنما أجابهم صلى الله عليه وسلم لذلك إما لعلمه بأنهم أشد من الذين خرجوا إليهم أولا أو لئلا يظن بالمطلوبين عجز أو جبن ، أو دفعا لما قد يظن أهل النفاق من أنه يضن بقرابته دون الأنصار .

النظر الثاني لا يخفى أن الظاهر من قوله { لا يزوجن إلا من الأكفاء } أن الخطاب للأولياء نهيا لهم أن يزوجوهن إلا [ ص: 293 ] من الأكفاء ، ولا دلالة فيه على أنها إذا زوجت نفسها من غير الكفء يثبت لهم حق الفسخ . فإن قلت : يمكن كون فاعل يزوجن المحذوف أعم من الأولياء ، ومنها أن لا يزوجهن مزوج هي لنفسها أو الأولياء لها .

فالجواب أن حاصله أنها منهية عن تزويجها نفسها بغير الكفء فإذا باشرته لزمتها المعصية ولا يستلزم أن للولي فسخه إلا المعنى الصرف وهو أنها أدخلت عليه ضررا فله دفعه ، وهذا ليس مدلول النص ، ولو علل نهيها التضمني للنص بإدخالها الضرر عليه لم يكن فسخه مدلول النص .

وإنما قلنا التضمني ; لأن النهي على هذا التقدير متعلق بها وبالأولياء ، فبالنسبة إليهم إنما يعلل بترك النظر لها ، وبالنسبة إليها بإدخال الضرر على الولي ، وعلى كل تقدير فليس مدلول اللفظ . ولا يشكل على سامع أن في قول القائل إذا زوجت المرأة نفسها من غير كفء فللولي فسخه لقوله صلى الله عليه وسلم { لا يزوجهن أحد إلا من الأكفاء } نبوة للدليل عن المدعي . فالحق أنه دليل على مجرد الاعتبار في الشرع من غير تعرض لأمر زائد على ذلك كما هو في الكتاب .

فإن قلت : كون الشيء معتبرا في الشرع لا بد من كونه على وجه خاص : أعني معتبرا على أنه واجب أو مندوب . قلنا : نعم لكنه لم تقصد الخصوصية فإن قلت : فما هو ؟ قلنا : مقتضى الأدلة التي ذكرناها الوجوب : أعني وجوب نكاح الأكفاء وتعليلها بانتظام المصالح يؤيده لا ينفيه .

ثم لا يستلزم كونه أول كفء خاطب إلا ما روى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } ولولا أن شرط المشروع القطعي لا يثبت بظني لقلنا باشتراط الكفاءة للصحة .

ثم هذا الوجوب يتعلق بالأولياء حقا لها وبها حقا لهم على ما تبين مما ذكرناه ، لكن إنما تتحقق المعصية في حقهم إذا كانت صغيرة ; لأنها إذا كانت كبيرة لا ينفذ عليها تزويجهم إلا برضاها : فهي تاركة لحقها ، كما إذا رضي الولي بترك حقه حيث ينفذ . هذا كله مقتضى الأدلة التي ذكرناها مع قطع النظر عن غيرها ، وعلى اعتبارها يشكل قول أبي حنيفة في أن الأب له أن يزوج بنته الصغيرة من غير كفء .

فإن قلت : خطب صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس وهي قرشية على أسامة بن زيد وليس قرشيا ، وزوجت أخت عبد الرحمن بن عوف من بلال وهو حبشي ، وزوج أبو حذيفة بنت أخيه من مولاه ، وكل ذلك بعلم الصحابة وبعضه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم . فالجواب أن وقوع هذه ليس يستلزم كون تلك النساء صغائر بل العلم محيط بأنهن كبائر خصوصا بنت قيس كانت ثيبا كبيرة حين تزوجها أسامة ، وإنما جاز لإسقاطهن حق الكفاءة هن وأولياؤهن .

هذا وفي اعتبار الكفاءة خلاف مالك والثوري والكرخي من مشايخنا لما روى عنه صلى الله عليه وسلم { الناس سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على عجمي إنما الفضل بالتقوى } قلنا ما رويناه يوجب حمل ما رووه على حال الآخرة جمعا بين الأدلة ( قوله ولأن انتظام إلخ ) يعني أن المقصود من شرعية النكاح انتظام مصالح كل من الزوجين بالآخر في مدة العمر ; لأنه [ ص: 294 ] وضع لتأسيس القرابات الصهرية ليصير البعيد قريبا عضدا وساعدا يسره ما يسرك ويسوءه ما يسوءك ، وذلك لا يكون إلا بالموافقة والتقارب ، ولا مقاربة للنفوس عند مباعدة الأنساب والاتصاف بالرق والحرية ونحو ذلك ، ولذلك رأينا الشرع فسخ عقد النكاح إذا ورد ملك اليمين لها عليه وإن كان معللا أيضا بعلة أخرى عامة للطرفين على ما مر في فصل المحرمات فعقده مع غير المكافئ قريب الشبه من عقد لا تترتب عليه مقاصده ، وإذا كان إياه فسد ، وإذا كان طريقه كره ولم يلزم لموليه إذا انفرد به الولي لظهور الإضرار بها




الخدمات العلمية