الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              قال الشيخ رحمه الله تعالى :

              وأما كلامه في النقض على المخالفين من الجهمية والمرجئة فشائع ذائع وقد كان رحمه الله من المثبتة لصفات الله أنها أزلية غير محدثة في كتابه المترجم بالرد على الجهمية ذكرت منه فصلا وجيزا من فصوله وهو :

              ما حدثناه محمد بن جعفر المؤدب ، ثنا أحمد بن بطة بن إسحاق ، ثنا إسماعيل بن أحمد المديني ، ثنا أبو عبد الله بن موسى ، بمكة ، وهو عن محمد بن القاسم خادم محمد بن أسلم وصاحبه ، قال : سمعت محمد بن أسلم يقول : " زعمت الجهمية أن القرآن [ ص: 245 ] مخلوق وقد أشركوا في ذلك وهم لا يعلمون لأن الله تعالى قد بين أن له كلاما فقال : ( إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ) وقال في آية أخرى : ( وكلم الله موسى تكليما ) فأخبر أن له كلاما وأنه كلم موسى عليه السلام فقال في تكليمه إياه : ( ياموسى إني أنا ربك ) فمن زعم أن قوله : ( ياموسى إني أنا ربك ) خلق وليس بكلامه فقد أشرك بالله ، لأنه زعم أن خلقا قال لموسى : إني أنا ربك ، فقد جعل هذا الزاعم ربا لموسى دون الله . وقول الله أيضا لموسى في تكليمه : ( فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) فقد جعل هذا الزاعم إلها لموسى غير الله . وقال في آية أخرى لموسى في تكليمه إياه : ( ياموسى إني أنا الله رب العالمين ) فمن لم يشهد أن هذا كلام الله وقوله تكلم به والله قاله ، وزعم أنه خلق فقد عظم شركه وافتراؤه على الله ; لأنه زعم أن خلقا قال لموسى : ( ياموسى إني أنا الله رب العالمين ) فقد جعل هذا الزاعم للعالمين ربا غير الله فأي شرك أعظم من هذا ، فتبقى الجهمية في هذه القصة بين كفرين اثنين إن زعموا أن الله لم يكلم موسى فقد ردوا كتاب الله وكفروا به ، وإن زعموا أن هذا الكلام : ( ياموسى إني أنا الله رب العالمين ) خلق فقد أشركوا بالله ، ففي هؤلاء الآيات بيان أن القرآن كلام الله تعالى ، وفيها بيان شرك من زعم أن كلام الله خلق ، وقول الله خلق ، وما أوحى الله إلى أنبيائه خلق .

              وأما نقضه رحمه الله على المرجئة الكرامية التي زعمت أن الإيمان هو القول باللسان من دون عقد القلب الذي هو التصديق ، فقد صنف في الإيمان وفي الأعمال الدالة على تصديق القلب وأماراته كتابا جامعا كبيرا .

              حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد بن عبيد الله الجرجاني المقري ، ثنا محمد بن زهير الطوسي ، ثنا عبد الله بن يزيد المقري ، ثنا كهمس ، عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، عن عبد الله بن عمر ، عن عمر ، أن جبرائيل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإيمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر كله خيره وشره " . الحديث ، وهذا أول حديث ذكره واستفتح [ ص: 246 ] به كتابه وبنى عليه كلامه . قال محمد بن أسلم : فبدء الإيمان من قبل الله فضل منه ورحمة ومن يمن به على من يشاء من عباده ، فيقذف في قلبه نورا ينور به قلبه ويشرح به صدره ويزيد في قلبه الإيمان ويحببه إليه ، فإذا نور قلبه وزين فيه الإيمان وحببه إليه آمن قلبه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر كله خيره وشره ، وآمن بالبعث والحساب والجنة والنار حتى كأنه ينظر إلى ذلك وذلك من النور الذي قذفه الله في قلبه ، فإذا آمن قلبه نطق لسانه مصدقا لما آمن به القلب وأقر بذلك وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأن هذه الأشياء التي آمن بها القلب فهي حق .

              فإذا آمن القلب وشهد اللسان عملت الجوارح فأطاعت أمر الله وعملت بعمل الإيمان وأدت حق الله عليها في فرائضه وانتهت عن محارم الله إيمانا وتصديقا بما في القلب ونطق به اللسان ، فإذا فعل ذلك كان مؤمنا .

              وقد بين الله ذلك في كتابه ، وأن بدء الإيمان من قبله فقال تعالى : ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ) ، وقال : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) أفلا يرون أن هذا التزيين وهذا النور من عطية الله ورزقه يعطي من يشاء كما يشاء ، ألا ترى أن الناس يمرون . وقال في كتابه ( الذين أوتوا العلم والإيمان ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحارث بن مالك : " عبد نور الله الإيمان في قلبه " وقال : " نور يقذف في القلب فينشرح وينفسح " ثم بين الرسول أنه يتبين على المؤمن إيمانه بالعمل حين قيل له : هل له علامة يعرف بها ؟ قال : " نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله " ألا ترون أنه قد بين أن إيمانه يعرف بالعمل لا بالقول . وقد بين أن الإيمان الذي في القلب ينفعه إذا عمل بعمل الإيمان ، فإذا عمل بعمل الإيمان تتبين علامة إيمانه أنه مؤمن . فهذا كلامه الذي عليه ابتناء الكتاب ، وأنه جعل الأعمال علامة للإيمان ، وأن الإيمان هو تصديق القلب ، وأن اللسان شاهد يشهد ومعبر يعبر عما في القلب ، لا أن الشاهد المعبر نفس الإيمان من دون تصديق القلب على ما زعمت الكرامية . وضمن هذا الكتاب من الآثار المسندة وقول [ ص: 247 ] الصحابة والتابعين أحاديث كثيرة .

              قال محمد بن أسلم : وقال المرجئ : ويتفاضل الناس في الأعمال ، خطأ لأنه زعم أن من كان أكثر عملا فهو أفضل من الذي كان أقل عملا ، فعلى زعمه أن من الذي كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم عملوا بعده أعمالا كثيرة من الحج والعمرة والغزو والصلاة والصيام والصدقة والأعمال الجسمية ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بالاتفاق ، ثم من كان بعد أبي بكر الصديق وعمر قد عملوا الأعمال الكثيرة التي لم يعملها عمر ولم يبلغها ، وعمر أفضل منهم .

              ثم من بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين قد عملوا أعمالا كثيرة أكثر مما عملته الصحابة ، والصحابة أفضل منهم ، فأي خطأ أعظم من خطأ هذا المرجئ الذي زعم أن الناس يتفاضلون بالأعمال ؟ وإنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، يفضل من يشاء من عباده على من يشاء عدلا منه ورحمة ، فكل من فضله الله فهو أعظم إيمانا من الذي دونه ، لأن الإيمان قسم من الله قسمه بين عباده كيف شاء ، كما قسم الأرزاق فأعطى منها كل عبد ما شاء ، ألا ترى إلى قول عبد الله بن مسعود " إذا أحب الله تعالى عبدا أعطاه الإيمان " ، فالإيمان عطية الله يعطيه من يشاء ويفضل من يشاء على من يشاء ، وهو قوله تعالى ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ) وقال : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) أفلا ترون أن هذا التزيين وهو النور من عطية الله ورزقه يعطي من يشاء كما يشاء ، ألا ترى أن الناس يمرون يوم القيامة على الصراط على قدر نورهم ، فواحد نوره مثل الجبل ، وواحد نوره مثل البيت فكم بين الجبل والبيت من الزيادة والنقصان ؟ فإذا كان نور من خارج مثل الجبل وآخر مثل البيت ، فكذلك نورهما من داخل القلب على قدر ذلك ، فالمرجئة والجهمية قياسهما قياس واحد ، فإن الجهمية زعمت أن الإيمان المعرفة [ ص: 248 ] فحسب ، بلا إقرار ولا عمل . والمرجئة زعمت أنه قول بلا تصديق قلب ولا عمل فكلاهما شيعة إبليس ، وعلى زعمهم إبليس مؤمن ، لأنه عرف ربه ووحده حين قال : ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) وحين قال : ( إني أخاف الله رب العالمين ) وحين قال ( رب بما أغويتني ) فأي قوم أبين ضلالة وأظهر جهلا وأعظم بدعة من قوم يزعمون أن إبليس مؤمن ؟ فضلوا عن جهة قياسهم يقيسون على الله دينه والله لا يقاس عليه دينه ، فما عبدت الأوثان والأصنام إلا بالقايسين ، فاحذروا يا أمة محمد القياس على الله في دينه ، واتبعوا ولا تبتدعوا فإن دين الله استنان واقتداء واتباع لا قياس وابتداع .

              قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله : اقتصرت من تفاصيله ومعارضته على المرجئة على ما ذكرت ، وكتابه يشتمل على أكثر من جزأين مشحونا بالآثار المسندة ، وقول الصحابة والتابعين .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية