الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ينظر فيما احتجت به كل طائفة .

                                                                                                                                                                                          فوجدنا قول ربيعة يشبه قول أبي حنيفة في منعه من هبة المشاع ومن الصدقة بالمشاع ، ومن إجارة المشاع ، ورهن المشاع .

                                                                                                                                                                                          وقول الحسن ، وعبد الملك بن يعلى القاضي في المنع من بيع المشاع ، ورهن المشاع ، ويحتج له بما احتج به من ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          وليس كل ذلك بشيء ; لأن النص والنظر يخالف كل ذلك - : أما النص : فقد ذكرناه ونذكره إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وأما النظر : فكل أحد أحق بماله ما لم يمنعه منه نص ، وقد حض الله تعالى على العتق ، والهبة ، والصدقة ، وأمرنا بالرهن ، وأباح البيع ، والإجارة ، فكل ذلك جائز على كل حال ما لم يمنع النص من شيء من ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقد يمكن أن يحتج بذلك : بأنه لا يمكن أن يكون إنسان بعضه حر وبعضه عبد .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 180 ] فقلنا : وما المانع من ذلك ؟ فقالوا : كما لا تكون امرأة بعضها مطلقة ، وبعضها زوجة .

                                                                                                                                                                                          فقلنا : هذا قياس والقياس كله باطل .

                                                                                                                                                                                          ثم يلزم على هذا أن يقولوا : إذا وقع هذا أعتق كله ، كما يقولون في المرأة إذا طلق بعضها .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : هذا ضرر على الشريك ، وقد جاء " لا ضرر ولا ضرار " .

                                                                                                                                                                                          فقلنا : افتراق الملك أيضا ضرر فامنعوا منه ، وأعظم الضرر منع المؤمن من عتق حصته .

                                                                                                                                                                                          وأما من قال بالتقاوم فخطأ ; لأنه لم يأت به نص ، ولا يجوز أن يجبر أحد على إخراج ملكه عن يده إلا أن يوجب ذلك عليه نص - فسقط هذا القول أيضا .

                                                                                                                                                                                          وأما القول المأثور عن عمر بن الخطاب ، وعطاء ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، وربيعة - : فوجدنا من حججهم ما روينا من طريق سعيد بن منصور نا سفيان - هو ابن عيينة - عن عمرو بن دينار عن محمد بن عمرو بن سعيد بن العاص : { أن بني سعيد بن العاص كان لهم غلام فأعتقوه كلهم إلا رجل واحد ، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشفع به على الرجل فوهب الرجل نصيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه ، فكان يقول : أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه رافع أبو البهاء } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا منقطع ; لأن محمد بن عمرو بن سعيد لم يذكر من حدثه - ثم لو صح لكان ذلك على معهود الأصل ، والأصل أن كل أحد أملك بماله ، ثم نسخ ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعتق على الموسر ويستسعى إن كان المعتق معسرا - فبطل بهذا الحكم ما كان قبل ذلك بلا شك .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : هو قول صح عن عمر ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه .

                                                                                                                                                                                          فقلنا : عارضوا بهذا الحنفيين والمالكيين الذين يتركون السنن لأقل من هذا ، كما فعلوا في " البيعين بالخيار ما لم يتفرقا " وفي عتق صفية وجعله عليه الصلاة والسلام عتقها صداقها ، وتوريث المطلقة ثلاثا في مرض الموت .

                                                                                                                                                                                          وأما نحن فلا حجة عندنا في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وذكروا ما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا أحمد بن عبد الله بن عبد الحكم [ ص: 181 ] نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة عن خالد الحذاء عن أبي بشر - هو الوليد بن مسلم العنبري - عن ابن الثلب عن أبيه " رجلا أعتق نصيبا له من مملوك فلم يضمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم " فهذا عن ابن الثلب - وهو مجهول .

                                                                                                                                                                                          وقال : قال الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } ولا فرق بين عتق نصيبه وبين بيع نصيبه .

                                                                                                                                                                                          قلنا : نعم ، ولكن السنة أولى أن تتبع ، وهو عليه الصلاة والسلام يفسر القرآن ، قال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } .

                                                                                                                                                                                          وقد حكمتم بالعاقلة ولم تبطلوها بهذه الآية .

                                                                                                                                                                                          وحكمتم بالشفعة ولم تقولوا : كل أحد أملك بحقه .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : لو ابتدأ عتق نصيب شريكه لم ينفذ ، فكذلك ، بل أحرى أن لا ينفذ إذا لم يعتقه ، لكن أعتق نصيب نفسه ، وقد جاء لا عتق قبل ملك .

                                                                                                                                                                                          فقلنا : هذا كله كما ذكرتم ، وكله لا يعارض به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تضرب السنن بعضها ببعض .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : لو أعتقا معا لجاز ، فصح أن كل أحد أملك بحقه ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا : نعم ، وليس هذا بمشبه لعتقه بعد عتق شريكه ; لأن له أن يبيع مع عتق شريكه معا ، وأن يهب ، وليس له عند بعض من قال بهذا القول أن يبيع بعد عتق شريكه ، ولا أن يهب ، وله ذلك عند بعضهم وكل هذا فيمكن أن يشغب به لو لم تأت السنة بخلاف ذلك ، وأما وقد جاء ما يخص هذا كله فلا يحل خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا مما تناقض فيه الحنفيون ، والمالكيون ، فخالفوا صاحبا لا يصح عن أحد من الصحابة خلافه ، وخالفوا أثرين مرسلين ، وهم يقولون بالمرسل ، وخالفوا القياس .

                                                                                                                                                                                          فأما أبو حنيفة : فلم يتعلق بشيء أصلا .

                                                                                                                                                                                          وأما مالك : فتعلق بحديث ناقص عن غيره ، وقد جاء غيره بالزيادة عليه

                                                                                                                                                                                          وأما قول عثمان البتي في تخصيصه الجارية الرائعة ، فقول لا دليل عليه أصلا [ ص: 182 ] واستدلاله فاسد ; لأن الضرر الداخل عليهم بالشركة المانعة من الوطء هو بعينه ولا زيادة داخلة عليهم في عتق بعضها ولا فرق ، وكلتاهما يمكن أن تتزوج ولا فرق ، فبطل هذا القول .

                                                                                                                                                                                          وأما قول زفر : فإن الحجة له ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب نا عمرو بن عثمان نا الوليد بن مسلم عن حفص بن غيلان عن سليمان بن موسى عن نافع ، عن عطاء ، قال نافع : عن ابن عمر ، وقال عطاء : عن جابر ، ثم اتفق جابر ، وابن عمر : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من أعتق عبدا وله فيه شركاء وله وفاء فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمة لما أساء من مشاركتهم وليس على العبد شيء } .

                                                                                                                                                                                          وبما روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا يحيى بن الأنصاري عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أيما رجل كان له نصيب في عبد فأعتق نصيبه فعليه أن يكمل عتقه بقيمة عدل } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : الأول - إنما فيه حكم من له وفاء ، ولم يذكر فيه من لا وفاء عنده - وأيضا فهو من طريق حفص بن غيلان - ولا نعرفه - وأخلق به أن يكون مجهولا لا يعتد به .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة { عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في المملوك بين الرجلين فيعتق أحدهما ؟ قال : يضمن وعليه خلاصه } .

                                                                                                                                                                                          وأما الثاني ، والثالث - فصحيحان ، إلا أنه قد جاء خبر آخر بزيادة عليهما ، فأخذ الزيادة أولى ولو لم يأت إلا هذان الخبران لما تعديناهما .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : جنى على شركائه فوجب تضمينه .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 183 ] قال أبو محمد : ما جنى شيئا ، بل أحسن وتقرب إلى الله عز وجل ، ولكن عهدنا بالحنفيين ، والمالكيين يجعلون خبر المعتق نصيبه حجة لقولهم الفاسد في أن المعتدي لا يضمن إلا قيمة ما أفسد ، لا مثل ما أفسد ، فإذ هو عندهم إفساد - وهم أصحاب تعليل وقياس ، فالواجب عليهم أن يقولوا بقول زفر هذا ، وإلا فقد أبطلوا تعليلهم ، ونقضوا قياسهم ، وأفسدوا احتجاجهم وتركوا ما أصلوا ، وهذه صفات شائعة في أكثر أقوالهم - وبالله تعالى التوفيق - فسقط هذا القول أيضا .

                                                                                                                                                                                          وأما قول أبي حنيفة : ففي غاية الفساد ; لأنه قول لم يتعلق بقرآن ، ولا سنة صحيحة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول صاحب ، ولا تابع ، ولا أحد نعلمه قبله ، ولا بقياس ، ولا برأي سديد ، ولا احتياط ، بل هو مخالف لكل ذلك .

                                                                                                                                                                                          وما وجدناهم موهوا إلا بكذب فاضح من دعواهم : أن قولهم موافق لقول عمر ، وكذبوا كما يرى كل ذي فهم مما أوردنا .

                                                                                                                                                                                          وحكموا بالاستسعاء ، وخالفوا حديث الاستسعاء في إجازتهم الذي لم يعتق أن يعتق ، وأن يضمن في حال إعسار الشريك ، وأجازوا له أن يعتق ، ومنعوه أن يحتبس .

                                                                                                                                                                                          ثم أتوا بمقاييس سخيفة على المكاتب ، والمكاتب عندهم قد يعجز فيرق ، ولا يرق عندهم المستسعى ، وغير ذلك مما لم يفارقوا فيه الكذب البارد

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إن كل فصل من قولنا موجود في حديث من الأحاديث .

                                                                                                                                                                                          قلنا : وموجود أيضا خلافه بعينه في هذه القضية ، فمن أين أخذتم ما أخذتم وتركتم ما تركتم هكذا مطارفة ؟ وأيضا - فلا يوجد في شيء من الآثار خيار في تضمين الموسر أو ترك تضمينه ، ولا رجوع الموسر على العبد ، ولا تضمين العبد في حال يسار الذي أعتقه أصلا - وبالله تعالى التوفيق - وسائر الأقوال لا متعلق لها أصلا

                                                                                                                                                                                          وأما قول مالك ، والشافعي : فوجدناهم يحتجون بما روينا من طريق مسلم نا محمد بن عبد الله بن نمير نا أبي نا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أعتق شركا له من مملوك فعليه عتقه كله إن كان له مال يبلغ ثمنه ، فإن لم يكن له مال عتق منه ما عتق } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 184 ] قال أبو محمد : ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلا وهو خبر صحيح ، إلا أنه قد جاء خبر آخر بزيادة عليه لا يحل تركها ، وقد أقدم بعضهم فزاد في هذا الخبر { ورق منه ما رق } وهي موضوعة مكذوبة ، ولا نعلم أحدا رواها ، لا ثقة ولا ضعيف ، ولا يجوز الاشتغال بما هذه صفته ، وليس في قوله عليه الصلاة والسلام " وإلا فقد عتق منه ما عتق " دليل على حكم المعسر أصلا ، وإنما هو مسكوت عنه في هذا الخبر ، ولا شك في أنه قد " عتق منه ما عتق " وبقي حكم المعسر فوجب طلبه من غير هذا الخبر على أنه قد قيل : إن لفظة { وإلا فقد عتق منه ما عتق } إنما هو من كلام نافع ، ولسنا نلتفت إلى هذا ; لأنه دعوى بلا دليل ، لكن ينبغي طلب الزيادة ، فإذا وجدت صحيحة وجب الأخذ بها - وبالله تعالى نتأيد .

                                                                                                                                                                                          فلم يبق إلا قولنا - فوجدنا الحجة له ما روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا عمرو الناقد ، وإسماعيل - هو ابن علية - كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أعتق شقصا له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي داود نا مسلم - هو ابن إبراهيم الكشي - نا أبان - هو ابن يزيد العطار - نا قتادة نا النضر بن أنس بن مالك عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أعتق شقصا في مملوك فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال وإلا استسعي العبد غير مشقوق عليه } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري نا أحمد بن أبي رجاء ، وأبو النعمان - هو محمد بن الفضل عارم - قال أحمد : نا يحيى بن آدم نا جرير بن حازم سمعت قتادة ، وقال أبو النعمان : نا جرير بن حازم عن قتادة ثم اتفقا عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أعتق شقصا في عبد عتق كله إن كان له مال وإلا استسعي غير مشقوق عليه } وقد سمع قتادة هذا الخبر من النضر بن أنس .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 185 ] كما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن عبد الله بن المبارك نا أبو هشام نا أبان بن يزيد العطار نا قتادة نا النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من أعتق شقيصا له من عبد فإن عليه أن يعتق بقيته إن كان له مال وإلا استسعي العبد غير مشقوق عليه } وهذا خبر في غاية الصحة فلا يجوز الخروج عن الزيادة التي فيه ؟ فقال قوم : قد روى هذا الخبر : شعبة ، وهمام ، وهشام الدستوائي فلم يذكروا ما ذكر ابن أبي عروبة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فكان ماذا ؟ وابن أبي عروبة ثقة ، فكيف وقد وافقه عليه جرير ، وأبان ، وهما ثقتان .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فإن هماما قال في هذا الحديث : فكان قتادة يقول : إن لم يكن له مال استسعي العبد ؟ قلنا : صدق همام ، قال قتادة مفتيا بما روى ، وصدق ابن أبي عروبة ، وجرير ، وأبان ، وموسى بن خلف ، وغيرهم ، فأسندوه عن قتادة ، ولو لم يصح حديث قتادة هذا لكان حديث ابن عمر ، وأبي هريرة بالتضمين : جملة زائدة على ما تعلق به مالك من رواية نافع ، فكان يكون القول ما ذهب إليه زفر بن الهذيل ، وهذا لا مخلص له عنه - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : إنه حر ساعة يعتق بعضه ، فإن بعض الرواة قال " ثم يعتق " وكان في رواية جرير بن حازم التي ذكرنا " عتق كله " فكانت هذه زيادة لا يجوز تركها ، فإذ قد عتق كله فولاؤه للذي عتق عليه .

                                                                                                                                                                                          وأما رجوع أحدهما على الآخر - فباطل ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألزم الغرامة للمعتق في يساره وألزمها العبد المعتق في إعسار المعتق ولم يذكر رجوعا ، فلا يجوز لأحد القضاء برجوع في ذلك .

                                                                                                                                                                                          قال علي : فإن كان له مال لا يفي بجميع قيمة العبد فلا غرامة على المعتق لكن يستسعى العبد ، وهذا مقتضى لفظ الخبر .

                                                                                                                                                                                          وبه يقول حماد - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية