الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني ، ثنا أحمد بن محمد بن حمدان النيسابوري ، ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن الشاشي ، قال : سمعت ذا النون المصري يقول : " إلهي ما أصغي إلى صوت حيوان ولا حفيف شجر ، ولا خرير ماء ، ولا ترنم طائر ، ولا تنعم ظل ، ولا دوي ريح ، ولا قعقعة رعد إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك دالة على أنه ليس كمثلك شيء ، وأنك غالب لا تغلب وعالم لا تجهل ، وحليم لا تسفه ، وعدل لا تجور ، وصادق لا تكذب ، إلهي فإني أعترف لك اللهم بما دل عليه صنعك ، وشهد لك فعلك ، فهب لي اللهم طلب رضاك برضاي ومسرة الوالد لولده يذكرك لمحبتي لك ، ووقار الطمأنينة وتطلب العزيمة إليك ; لأن من لم يشبعه الولوع باسمك ولم يروه من ظمائه ورود غدران ذكرك ، ولم ينسه جميع الهموم رضاه عنك ، ولم يلهه عن جميع الملاهي تعداد آلائك ، ولم يقطعه عن الأنس بغيرك مكانه منك كانت حياته ميتة ، وميتته حسرة ، وسروره غصة وأنسه وحشة ، إلهي عرفني عيوب نفسي وافضحها عندي لأتضرع إليك في التوفيق للتنزه عنها ، وأبتهل إليك بين يديك خاضعا ذليلا في أن تغسلني منها ، واجعلني من عبادك الذين شهدت أبدانهم وغابت قلوبهم [ ص: 343 ] تجول في ملكوتك وتتفكر في عجائب صنعك ، ترجع بفوائد معرفتك وعوائد إحسانك ، قد ألبستهم خلع محبتك وخلعت عنهم لباس التزين لغيرك ، إلهي لا تترك بيني وبين أقصى مرادك حجابا إلا هتكته ، ولا حاجزا إلا رفعته ، ولا وعرا إلا سهلته ، ولا بابا إلا فتحته ، حتى تقيم قلبي بين ضياء معرفتك ، وتذيقني طعم محبتك ، وتبرد بالرضى منك فؤادي وجميع أحوالي حتى لا أختار غير ما تختاره ، وتجعل لي مقاما بين مقامات أهل ولايتك ، ومضطربا فسيحا في ميدان طاعتك ، إلهي كيف أسترزق من لا يرزقني إلا من فضلك ؟ أم كيف أسخطك في رضى من لا يقدر على ضري إلا بتمكينك ؟ فيا من أسأله إيناسا به وإيحاشا من خلقه ، ويا من إليه التجائي في شدتي ورجائي ، ارحم غربتي وهب لي من المعرفة ما أزداد به يقينا ، ولا تكلني إلى نفسي الأمارة بالسوء طرفة عين " .

              حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا سعيد بن عثمان الخليط ، عن أبي الفيض ذي النون المصري ، قال : إن لله لصفوة من خلقه ، وإن لله لخيرة من خلقه ، قيل له : يا أبا الفيض فما علامتهم ؟ قال : إذا خلع العبد الراحة وأعطى المجهود في الطاعة وأحب سقوط المنزلة ، قيل له : يا أبا الفيض فما علامة إقبال الله عز وجل على العبد ؟ قال : إذا رأيته صابرا شاكرا ذاكرا فذلك علامة إقبال الله على العبد ، قيل : فما علامة إعراض الله عن العبد ؟ قال : إذا رأيته ساهيا راهبا معرضا عن ذكر الله ، فذاك حين يعرض الله عنه ، ثم قال : ويحك كفى بالمعرض عن الله وهو يعلم أن الله مقبل عليه وهو معرض عن ذكره ، قيل له : يا أبا الفيض فما علامة الأنس بالله ؟ قال : إذا رأيته يؤنسك بخلقه فإنه يوحشك من نفسه ، وإذا رأيته يوحشك من خلقه فإنه يؤنسك بنفسه ، ثم قال أبو الفيض : الدنيا والخلق لله عبيد ، خلقهم للطاعة وضمن لهم أرزاقهم ونهاهم وحذرهم وأنذرهم ، فحرصوا على ما نهاهم الله عنه ، وطلبوا الأرزاق وقد ضمنها الله لهم ، فلا هم في أرزاقهم استزادوا ، ثم قال : عجبا لقلوبكم كيف لا تتصدع ! ولأجسامكم كيف لا تتضعضع ، إذا كنتم تسمعون ما أقول لكم وتعقلون " .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو بكر الدينوري ، ثنا محمد بن أحمد [ ص: 344 ] الشمشاطي ، قال : سمعت ذا النون المصري ، يقول : " بينا أنا سائر على شاطئ نيل مصر إذ أنا بجارية تدعو وهي تقول في دعائها : يا من هو عند ألسن الناطقين ، يا من هو عند قلوب الذاكرين ، يا من هو عند فكرة الحامدين ، يا من هو على نفوس الجبارين والمتكبرين ، قد علمت ما كان مني ، يا أمل المؤملين ، قال : ثم صرخت صرخة خرت مغشيا عليها ، قال : وسمعت ذا النون يقول : دخلت على سواد نيل مصر فجاءني الليل فقمت بين زروعها ، فإذا أنا بامرأة سوداء قد أقبلت إلى سنبلة ففركتها ، ثم امتنعت عليها فتركتها وبكت ، وهي تقول : يا من بذره حبا يابسا في أرضه ولم يك شيئا ، أنت الذي صيرته حشيشا ، ثم أنبته عودا قائما بتكوينك ، وجعلت فيه حبا متراكبا ، ودورته فكونته وأنت على كل شيء قدير .

              وقالت : عجبت لمن هذه مشيئته كيف لا يطاع ، وعجبت لمن هذا صنعه كيف يشتكى ، فدنوت منها فقلت : من يشكو أمل المؤملين ، فقالت لي : أنت يا ذا النون ، إذا اعتللت فلا تجعل علتك إلى مخلوق مثلك ، واطلب دواءك ممن ابتلاك وعليك السلام ، لا حاجة لي في مناظرة البطالين ، ثم أنشأت تقول :


              وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل



              حدثنا محمد بن أحمد بن الصباح ، ثنا أبو بكر محمد بن خلف المؤدب - وكان من خيار عباد الله - قال : رأيت ذا النون المصري على ساحل البحر عند صخرة موسى ، فلما جن الليل خرج فنظر إلى السماء والماء ، فقال : سبحان الله ، ما أعظم شأنكما ، بل شأن خالقكما أعظم منكما ومن شأنكما ، فلما تهور الليل لم يزل ينشد هذين البيتين إلى أن طلع عمود الصبح :


              اطلبوا لأنسكم     مثل ما وجدت أنا
              قد وجدت لي سكنا     ليس هو في هواه عنا
              إن بعدت قربني     أو قربت منه دنا

              .

              أنشدنا عثمان بن محمد العثماني قال : أنشدني العباس بن أحمد لذي النون المصري :


              إذا ارتحل الكرام إليك يوما     ليلتمسوك حالا بعد حال
              [ ص: 345 ] فإن رحالنا حطت لترضى     بحلمك عن حلول وارتحال
              أنخنا في فنائك يا إلهي     إليك معرضين بلا اعتلال
              فسسنا كيف شئت ولا تكلنا     إلى تدبيرنا يا ذا المعالي



              حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن عبيد الله ، ثنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشاء ، ثنا أبو عثمان سعيد بن الحكم - تلميذ ذي النون - قال : سئل ذو النون : ما سبب الذنب ؟ قال : اعقل ويحك ما تقول ، فإنها من مسائل الصديقين ، سبب الذنب النظرة ، ومن النظرة الخطرة ، فإن تداركت الخطرة بالرجوع إلى الله ذهبت ، وإن لم تذكرها امتزجت بالوساوس فتتولد منها الشهوة وكل ذلك بعد باطن لم يظهر على الجوارح ، فإن تذكرت الشهوة ، وإلا تولد منها الطلب ، فإن تداركت الطلب وإلا تولد منه العقل .

              حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد ، ثنا أحمد بن عيسى الوشاء ، قال : سمعت أبا عثمان سعيد بن الحكم يقول : سمعت أبا الفيض ذا النون بن إبراهيم يقول : بينما أنا أسير ذات ليلة ظلماء في جبال بيت المقدس إذ سمعت صوتا حزينا وبكاء جهيرا ، وهو يقول : يا وحشتاه بعد أنسنا يا غربتاه عن وطننا وافقراه بعد غنانا ، واذلاه بعد عزنا ، فتبعت الصوت حتى قربت منه ، فلم أزل أبكي لبكائه حتى إذا أصبحنا نظرت إليه فإذا رجل ناحل كالشن المحترق ، فقلت : يرحمك الله تقول مثل هذا الكلام ، فقال : دعني فقد كان لي قلب فقدته ، ثم أنشأ يقول :


              قد كان لي قلب أعيش به     بين الهوى فرماه الحب فاحترقا



              فقلت له :


              لم تشتكي ألم البلا     وأنت تنتحل المحبه
              إن المحب هو الصبور     على البلاء لمن أحبه
              حب الإله هو السرور     مع الشفاء لكل كربه



              حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن مقسم ، قال : سمعت أبا محمد الحسن بن علي بن خلف ، يقول : سمعت إسرافيل يقول : سمعت ذا النون يقول : إن سكت [ ص: 346 ] علم ما تريد ، وإن نطقت لم تنل بنطقك ما لا يريد ، وعلمه بمرادك ينبغي أن يغنيك عن مسألته أو ينجيك عن مطالبته " .

              حدثنا أحمد بن محمد ، قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : سمعت ذا النون يقول : سمعت بعض المتعبدين بساحل بحر الشام ، يقول : إن لله عبادا عرفوه بيقين من معرفته فشمروا قصدا إليه ، احتملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب ، صحبوا الدنيا بالأشجان ، وتنعموا فيها بطول الأحزان فما نظروا إليها بعين راغب ، ولا تزودوا منها إلا كزاد الراكب ، خافوا البيات فأسرعوا ، ورجوا النجاة فأزمعوا ، بذكره لهجت ألسنتهم في رضى سيدهم ، نصبوا الآخرة نصب أعينهم ، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم ، فلو رأيتهم رأيت قوما ذبلا شفاههم ، خمصا بطونهم ، حزينة قلوبهم ، ناحلة أجسامهم ، باكية أعينهم ، لم يصحبوا العلل والتسويف ، وقنعوا من الدنيا بقوت طفيف ، لبسوا من اللباس أطمارا بالية ، وسكنوا من البلاد قفارا خالية ، هربوا من الأوطان واستبدلوا الوحدة من الإخوان ، فلو رأيتهم لرأيت قوما قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر ، وفصل الأعضاء منهم بخناجر التعب ، خمص لطول السرى ، شعث لفقد الكرا ، قد وصلوا الكلال بالكلال للنقلة والارتحال .

              أخبرنا أحمد قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : حضرت ذا النون في الحبس وقد دخل الجلواذ بطعام له ، فقام ذو النون فنفض يده فقيل له : إن أخاك جاء به ، فقال : إنه مر على يدي ظالم ، قال : وسمعت رجلا سأل ذا النون فقال : رحمك الله ! ما الذي أنصب العباد وأضناهم ؟ فقال : ذكر المقام ، وقلة الزاد ، وخوف الحساب ، ثم سمعته يقول بعد فراغه من كلامه : ولم لا تذوب أبدان العمال وتذهل عقولهم ، والعرض على الله أمامهم ، وقراءة كتبهم بين أيديهم ، والملائكة وقوف بين يدي الجبار ينتظرون أمره في الأخيار والأشرار ، ثم قال : مثلوا هذا في نفوسهم وجعلوه نصب أعينهم ، قال : وسمعت [ ص: 347 ] ذا النون ، يقول : قال الحسن : ما أخاف عليكم منع الإجابة إنما أخاف عليكم منع الدعاء " .

              حدثنا أحمد بن محمد بن مقسم ، ثنا أحمد بن محمد بن سهل الصيرفي ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان قال : سمعت ذا النون يقول : " إن الطبيعة النقية هي التي يكفيها من العظمة رائحتها ، ومن الحكمة إشارة إليها " .

              حدثنا أحمد بن محمد ، ثنا الحسن بن علي بن خلف قال : سمعت إسرافيل يقول : أنشدنا ذو النون بن إبراهيم المصري فقال :


              توجع بأمراض وخوف مطالب     وإشفاق محزون وحزن كئيب
              ولوعة مشتاق وزفرة واله     وسقطة مسقام بغير طبيب
              وفطنة جوال وبطأة غائص     ليأخذ من طيب الصفا بنصيب
              ألمت بقلب حيرته طوارق     من الشوق حتى ذل ذل غريب
              يكاتم لي وجدا ويخفي حمية     ثوت فاستكنت في قرار لبيب
              خلا فهمه عن فهمه لحضوره     فمن فهمه فهم عليه رقيب
              يقول إذا ما شفه الشوق وأجدى     بك العيش يا أنس المحب يطيب
              فهذا لعمري عبد صدق مهذب     صفى فاصطفى فالرب منه قريب



              حدثنا أحمد قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : سمعت ذا النون يقول : كتب رجل إلى عالم : ما الذي أكسبك علمك من ربك ، وما أفادك في نفسك ؟ فكتب إليه العالم : أثبت العلم الحجة ، وقطع عمود الشك والشبهة ، وشغلت أيام عمري بطلبه ، ولم أدرك منه ما فاتني ، فكتب إليه الرجل : العلم نور لصاحبه ، ودليل على حظه ، ووسيلة إلى درجات السعداء ، فكتب إليه العالم : أبليت إليه في طلبه جدة الشباب ، وأدركني حين علمت الضعف عن العمل به ، ولو اقتصرت منه على القليل كان لي فيه مرشد إلى السبيل .

              حدثنا أحمد قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت إسرافيل يقول : سأل رجل ذا النون المصري عن سؤال ، فقال له ذو النون : " قلبي لك مقفل ، فإن فتح لك [ ص: 348 ] أجبتك ، وإن لم يفتح لك فاعذرني واتهم نفسك " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية