الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 312 ] المسألة الثانية :

                                                                                                                                                                                                              هو الخضوع ، وهو الإخبات ، والاستكانة ، وهي ألفاظ مترادفة أو متقاربة ، أو متلازمة ; { وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : خضع لك سوادي ، وآمن بك فؤادي } .

                                                                                                                                                                                                              وحقيقته السكون على حالة الإقبال التي تأهب لها واحترم بها بالسر في الضمير ، وبالجوارح في الظاهر ; فقد { كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يلتفت في صلاته خاشعا خاضعا } ، وكذلك كان أبو بكر لا يلتفت ، وكذلك كان حفيده عبد الله بن الزبير .

                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنكدر لعروة : لو رأيت قيام ابن الزبير يعني أخاه عبد الله في الصلاة لقلت : غصن تصفقه الرياح ، وحجارة المنجنيق تقع هاهنا ، ورضف عن يمينه وعن يساره وهو قائم يصلي .

                                                                                                                                                                                                              وقال مجاهد : كان ابن الزبير إذا قام يصلي كأنه عود من الخشوع .

                                                                                                                                                                                                              وقال عمرو بن دينار : إن ابن الزبير كان يصلي في الحجر مرخيا ثيابه . فجاء حجر الخذاف ، فذهب بطائفة من ثوبه ، فما التفت ، وكذلك كان عبد الله بن مسعود إذا صلى لا يتحرك منه شيء ; ومن هاهنا قال العلماء وهي :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة :

                                                                                                                                                                                                              إنه يضع بصره في موضع سجوده ; وبه قال الشافعي والصوفية بأسرهم ، فإنه أحضر لقلبه ، وأجمع لفكره .

                                                                                                                                                                                                              قال مالك : إنما ينظر أمامه ، فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المنقوض عليه في الرأس ، وهو أشرف الأعضاء منه ، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج ، يعرفون ذلك بالتجربة ، وما جعل علينا في الدين من حرج ; وإنما أمرنا أن نستقبل الجهة ببصائرنا وأبصارنا ، أما إنه أفضل لمن قدر عليه متى قدر وكيف قدر ، وإنما الممنوع أن يرفع بصره في الصلاة إلى السماء ، فإنه لم يؤمر أن يستقبل السماء ، وإنما أمر أن يستقبل الجهة الكعبية ، فإذا رفع بصره فهو إعراض [ ص: 313 ] عن الجهة التي أمر بها ، حتى { قال النبي صلى الله عليه وسلم : لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم } وهي :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة :

                                                                                                                                                                                                              حتى قال علماؤنا حين رأوا عامة الخلق يرفعون أبصارهم إلى السماء وهي سالمة : إن المراد بالخطف هاهنا أخذها عن الاعتبار حين يمر بآيات السماء والأرض ، وهو معرض ، وذلك أشد الخطف ، ومن الحنيفية السمحة برفع الحرج الإذن في أن يلحظ يمينا وشمالا ، وإن كان يصلي ببصره ورأسه دون بدنه ، أذن الشرع فيه ، وهي :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة :

                                                                                                                                                                                                              فمن مراسيل سعيد بن المسيب { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلمح في الصلاة ، ولا يلتفت } .

                                                                                                                                                                                                              وروى معاوية بن قرة قال : قيل لابن عمر : إن ابن الزبير إذا صلى لم يقل هكذا وهكذا . فقال : لكنا نقول هكذا وهكذا ، ونكون مثل الناس ; إشارة من ابن عمر إلى أنه تكليف يخرج إلى الحرج .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة :

                                                                                                                                                                                                              قال ابن القاسم عن مالك في قوله : { الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال : الإقبال عليها . وقال مقاتل : لا يعرف من على يمينه ، ولا من على يساره . صليت المغرب ليلة ما بين باب الأخضر ، وباب حطة من البيت المقدس ، ومعنا شيخنا أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربي الزاهد ، فلما سلمنا تمارى رجلان كانا عن يمين أبي عبد الله المغربي ; وجعل أحدهما يقول للآخر : أسأت صلاتك ، ونقرت نقر الغراب . والآخر يقول له : كذبت ; بل أحسنت وأجملت . فقال المعترض لأبي عبد الله الزاهد : ألم يكن إلى جانبك ; فكيف رأيته يصلي ؟ [ ص: 314 ] قال أبو عبد الله : لا علم لي به ، كنت مشتغلا بنفسي وصلاتي عن الناس وصلاتهم . فخجل الرجل وأعجب الحاضرون بالقول . وصدق شيخنا أبو عبد الله الزاهد ; لو كان لصلاته قدر ، أو له بها شغل وإقبال بالكلية لما علم من عن يمينه ، أو عن يساره فضلا عن معرفته كيفية صلاته ، وإلا فأحد الرجلين أساء صلاته في حذف صفاتها ، واختصار أركانها ، وهذا أساء صلاته في الاشتغال بصلاة هذا ، حتى ذهب حفظ صلاته وخشوعها .

                                                                                                                                                                                                              ونكتة المسألة أن قولك : " الله أكبر " يحرم عليك الأفعال بالجوار ، والكلام باللسان ; ونية الصلاة تحرم عليك الخواطر بالقلب ، والاسترسال عن الأفكار ، إلا أن الشرع لما علم أن ضبط الشر من السر يفوت طوق البشر سمح فيه ، كما تقدم بيانا له .

                                                                                                                                                                                                              والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية