الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وأما وطء المكاتبة : فإننا روينا من طريق أحمد بن حنبل نا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري نا يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب ، قال : إذا كاتب الرجل أمته واشترط أن يغشاها حتى يؤدي مكاتبتها فلا بأس بذلك - وبه يقول أبو ثور .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 240 ] والعجب : أن المانعين من وطئها اختلفوا ، فقال الحكم بن عتيبة : إن حملت بطلت الكتابة وهي أم ولد . وقال الزهري : يجلد مائة ، فإن حملت فهي أم ولد . قال علي : ليت شعري كيف يجلد مائة في وطئه من تكون أم ولده إن حملت ؟ إن هذا لعجب ، وإنما هو فراش أو عهر ولا ثالث .

                                                                                                                                                                                          وقال قتادة : يجلد مائة سوط غير سوط ، وهي كذلك إن طاوعته . وقال سفيان الثوري : لا شيء عليه إن وطئها ولا عليها ، فإن حملت فهي بالخيار بين التمادي على الكتابة ، وبين أن تكون أم ولد وتبطل الكتابة .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ، ومالك ، كقول سفيان ، إلا أنه زاد " إن تمادت على الكتابة أخذت منه مهر مثلها فاستعانت به في كتابتها " إلا أن مالكا زاد " أنه يؤدب " . قال أبو محمد : ليت شعري لأي معنى تأخذ منه مهرا أهي زوجة له فيكون لها مهر هذا الباطل أم هي بغي ؟ فقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهر البغي ، أم هي ملك يمينه فهي حلال ولا مهر لها ؟ أم هي محرمة بصفة ، كالحائض ، أو الصائمة ، وما عدا ذلك فتخليط لا يعقل ؟ وقال الشافعي : يعزران ولها مهر مثلها ، وهي أم ولده - وهذا تناقض كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          والعجب من احتجاجهم في المنع من وطئها بأن قالوا : قد خرجت من يده وصارت في يد نفسها ، كالمرهونة . قال علي : هذا كذب ، ما خرجت عن يده ، ولا عن ملكه ، إلا بالأداء فقط ، والدعوى لا تقوم بها حجة ، والمرهونة حلال لسيدها ، والمانع من وطئها مخطئ - وهذا احتجاج للباطل بالباطل ، وللدعوى بالدعوى ، ولقولهم بقولهم .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : قد سقط ملكه عن منافعها ووطؤها من منافعها . قال أبو محمد : هذا كذب ، بل سقط ملكه عن رقبتها ، وملك رقبتها من منافعها ، وإنما الحق هاهنا أن منافعها له بلا خلاف ، فلا يخرج عن ملكه منهما إلا ما أخرجه النص ، ولا نص في منعه من وطئها ما لم تؤد . [ ص: 241 ] وقال بعضهم : وطؤها كإتلاف بعضها - وهذا غاية السخف - ولئن كان كإتلاف بعضها إنه لحرام عليه قبل الكتابة ، كما يحرم عليه إتلاف بعضها ولا فرق . وأما قولنا " إن عاد إلى ملكه لم تعد الكتابة " فلأن كل عقد بطل بحق فلا يرجع إلا بابتداء عقده ، أو بأن يوجب عودته بعد بطلانه نص ، ولا نص هاهنا . وأما إذا أديا شيئا فقد شرع العتق فيهما بمقدار ما أديا ، ولا يحل بيع حر ولا بيع جزء حر ، ولا وطء من بعضها حر ; لأنها ليست ملك يمينه حينئذ ، بل بعضها ملك يمينه وبعضها غير ملك يمينه والوطء لا ينقسم ، ولا يحل وطء حرام أصلا ، فإن فعل فهو زان فعليه الحد ، والولد غير لاحق - وهو قول الحسن البصري - وله بيع ما في ملكه منهما ، ولما ذكرنا من جواز بيع المرء حصته التي في ملكه .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا " إن مات السيد بطلت الكتابة ، أو ما قابل ما لم يؤد منه " فلقول الله تعالى { : ولا تكسب كل نفس إلا عليها } وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شروع العتق في المكاتب بالأداء ، وبقاء سائره رقيقا ، فإذا مات السيد فما عتق بالأداء حر لا يجوز أن يعود رقيقا ، وما بقي رقيقا فقد ملكه : الورثة ، والموصى لهم ، أو الغرماء . ولا يجوز عقد الميت في مال غيره وقد ذكرنا قبل قول الشعبي ليس لميت شرط وقال هؤلاء : إنما يرثون الكتابة - وهذا باطل على أصولهم ; لأن الكتابة عندهم ليست دينا ولا مالا مستقرا واجبا ، فبطل قولهم : إنها تورث .

                                                                                                                                                                                          وأما موت المكاتب : ففيه خلاف قديم ، وحديث . فقالت طائفة : ماله كله لسيده ، روينا ذلك من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن معبد الجهني ، قال : قضى عمر بن الخطاب في المكاتب يموت وله ولد أحرار ، وله مال أكثر مما بقي عليه : أن ماله كله لسيده . وعن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن طارق عن الشعبي عن زيد بن ثابت قال في المكاتب يموت وله ورثة : إن ماله كله لسيده . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عمر قال فيما ترك [ ص: 242 ] المكاتب : هو كله لسيده - وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، والنخعي ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبي سليمان ، وأصحابهم . وقالت طائفة : غير هذا ، كما روينا من طريق حماد بن سلمة ، وعبد الرزاق ، قال حماد : نا سماك بن حرب عن قابوس بن مخارق بن سليم عن أبيه ، وقال عبد الرزاق : عن ابن جريج عن عطاء ، ثم اتفقا عن علي في مكاتب مات وله ولد أحرار قال : يؤدي مما ترك ما بقي من كتابته ، ويصير ما بقي ميراثا لولده . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة ، والمعتمر بن سليمان ، كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : كان ابن مسعود يقول في المكاتب إذا مات وترك مالا : أدى عنه بقية كتابته ، وما فضل رد على ولده إن كان له ولد أحرار - وبه كان يقضي شريح . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن معبد الجهني : أن معاوية قال في مكاتب مات وله ولد أحرار ومال : أن يعطى سيده بقية كتابته ، ويكون ما بقي لولده الأحرار - وبه يقول معبد . وهو قول الحسن البصري ، وابن سيرين ، والنخعي ، والشعبي : إن ذلك لورثته بعد أداء كتابته - وهو قول عمرو بن دينار .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : إذا كان للمكاتب أولاد معه في كتابته ، وأولاد ليسوا معه في كتابته : فإنه يؤدي ما بقي من كتابته ، ثم يقسم ولده جميعا ما بقي من ماله على فرائضهم . وهو قول سفيان الثوري ، والحسن بن حي ، وأبي حنيفة ، وإسحاق بن راهويه .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : غير هذا ، كما روينا عن مالك ومن قلده : أن المكاتب إن كان معه في كتابته أمه وأبوه والجد ، والجدة وبنوه وبناته ، وبنو بنيه وبنو بناته ، وإخوته وأخواته ، وزوجاته أو بعض من ذكرنا ، وقد كان كاتب على نفسه وعلى من ذكرنا كتابة واحدة ، وكان له أولاد أحرار ، وإخوة أحرار ، وأبوان حران ، فمات وترك مالا ، فإنه يؤدي ما بقي من كتابته ، ويرث من ذكرنا ممن كان معه في الكتابة ما بقي على قسمة المواريث . [ ص: 243 ] ولا يرثه أب حر ، ولا أم حرة ، ولا أولاد أحرار ، ولا إخوة أحرار ، أصلا ، كان معه في الكتابة أحد من هؤلاء أو لم يكن .

                                                                                                                                                                                          قال : فإن كان معه في الكتابة من لا يعتق على المرء إذا ملكه ، كالعم وابن العم ، وابن الأخ ، فلا شيء لهم ، والمال كله لسيده . واختلف قوله في الزوج والزوجة : فمرة قال : يرثان إذا كانا معه في كتابة واحدة - ومرة قال : لا يرثانه . ولم يختلف قوله : أنهما لا يرثان إذا لم يكونا معه في الكتابة - ولا نعلم هذا القول عن أحد من خلق الله تعالى قبله ، وهذه فريضة ما سمع بأطم منها ، وهي خلاف القرآن ، والسنن ، والمعقول ، وقول كل أحد يعرف قوله . وقالت طائفة : كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي ، والشعبي ، كلاهما عن علي بن أبي طالب ، قال : المكاتب يرث بقدر ما أدى ، ويحجب بقدر ما أدى ، ويعتق منه بقدر ما أدى . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : أن علي بن أبي طالب قال في المكاتب : إنه يرث بقدر ما أدى ، ويجلد الحد بقدر ما أدى ، ويكون دينه بقدر ما أدى . ومن طريق سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال علي بن أبي طالب : المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم النخعي : أنه سئل عن المكاتب ؟ فقال : إذا أدى قيمة رقبته فهو غريم ، وإن مات أدى عنه بقية مكاتبته ، وورث ولده بقدر ما عتق منه ، وورث مواليه بقدر ما رق منه . قال أبو محمد : أما قول مالك فتخاذله أشهر من أن يشتغل به ، ويكفي منه أن لا يعرف عن أحد قبله ، وأنه لم يأت به نص ، ولا رواية فاسدة ، ولا قياس ، ولا يعقل . وقال بعضهم : لما كان المكاتب ليس له حكم العبيد ، ولا حكم الأحرار : وجب أن يكون لميراثه حكم آخر غير حكم العبيد في ميراثهم ، وغير حكم الأحرار . قال علي : فقلنا : فقولوا هكذا في حدوده ، وأخرجوا له حدودا طريفة ، وقولوا [ ص: 244 ] كذلك في ديته ، وقولوا بمثل هذا في أم الولد ، فكيف وأصلكم هذا باطل ، ودعوى كاذبة ، ولا فرق عندكم بينه وبين العبد ، إلا أن سيده ، لا ينتزع ماله ، ولا يستخدمه ، ولا يمنعه من التصرف والتكسب فقط ، كما أنه لا فرق بين أم الولد ، والأمة ، إلا أنها لا تباع أبدا ، ولا توهب أبدا ، ولا تعود إلى حكم الرق أبدا . وقالوا أيضا : هذا المال كان موقوفا لعتق جميعهم ، فكان كأنه لهم ؟ فقلنا : فاجعلوه بينهم على السواء بهذا الدليل ، ولا تقسموه قسمة المواريث ، وأدخلوا فيه كل من معه في الكتابة بهذا الدليل . وبالجملة فما ندري كيف انشرحت نفس أحد لقبول هذا القول على شدة فساده ، مع أن أصله فاسد .

                                                                                                                                                                                          ولا يجوز أن يكاتب أحد على نفسه وغيره كتابة واحدة ; لأنه شرط ليس في كتاب الله عز وجل ، فهو باطل - وبالله تعالى التوفيق . وأما قول أبي حنيفة : فخطأ ظاهر أيضا ; لأنهم مقرون بأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، فإذ هو كذلك ، فإنما مات عبدا ، وإذا مات عبدا فلا يمكن أن تقع الحرية على ميت بعد موته ، فظهر فساد قولهم جملة . ولا يختلفون فيمن قال لعبده : أنت حر إذا زالت الشمس من يومنا هذا ، فمات العبد قبل زوال الشمس بدقيقة ، فإنه مات عبدا ، ولا ترثه ورثته وماله كله لسيده . وأما من قال : ماله كله لسيده ، فإنما بنوا على أنه عبد ما بقي عليه درهم - وهذا قول قد بينا بطلانه بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المكاتب يشرع فيه العتق بقدر ما أدى ويرث بقدر ما عتق منه فصح أن لذلك البعض حكم الحر ولباقيه حكم العبد في الميراث وفي كل شيء - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما حمل المكاتبة فإنه ما لم تنفخ فيه الروح فهو بعضها كما قدمنا فله حكمها وأما إذا نفخ فيه الروح فهو غيرها قال تعالى { : ثم أنشأناه خلقا آخر } وهو عند ذلك ذكر وهي أنثى ، أو أنثى غيرها ، فليس له ولا لها حكم الأم قال الله تعالى { : ولا تكسب كل نفس إلا عليها } . فإن قيل : فهلا أجزتم عتق جميع المكاتب إذ بعضه حر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أعتق شقصا له في مملوك عتق كله } وأوجبتم الاستسعاء بذلك الخبر ؟ [ ص: 245 ] قلنا : لا يحل ضرب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض ، ولا أن يترك حكمه بحكم له آخر ، بل كل أحكامه فرض اتباعها ، وكل كلامه حق مسموع له ومطاع ، وهو عليه السلام أمر بعتق من أعتق بعضه ، إما على معتق بعضه إن كان له مال ، وإما بالاستسعاء ، وهو عليه السلام خص المكاتب بحكم آخر - وهو عتق بعضه وبقاء بعضه رقيقا - فقبلنا كل ما أمرنا به ، ولم نعارض بعضه ببعض - ولله تعالى الحمد ، ومن تعاطى تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين فهو أحمق ، وكلا هذين الحكمين قد صح فيهما اختلاف من سلف وخلف ، وكلاهما نقل الآحاد الثقات ، فليس بعضها أولى بالقبول من بعض - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية