الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1693 - مسألة : ومن كوتب إلى غير أجل مسمى فهو على كتابته ما عاش السيد [ وهو ] وما لم يخرج عن ملك السيد فمتى أدى ما كاتب عليه عتق ; لأن هذه صفة كتابته وعقده فلا يجوز تعديه ، ومن كوتب إلى أجل مسمى نجم واحد أو نجمين فصاعدا ، فحل وقت النجم ولم يؤد ، فقد اختلف الناس في ذلك . فروينا من طريق عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في المكاتب يؤدي صدرا من كتابته ثم يعجز ؟ قال : يرد عبدا ، سيده أحق بشرطه الذي شرط . قال ابن جريج : وأخبرني إسماعيل بن أمية أن نافعا أخبره أن ابن عمر فعل ذلك . يعني أنه رد مكاتبا له في الرق ، إذ عجز بعد أن أدى نصف كتابته .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الحجاج بن أرطاة عن حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي أن عليا قال : إذا عجز المكاتب فأدخل نجما في نجم رد في الرق . [ ص: 246 ] وروينا عن أبي أيوب الأنصاري أنه كاتب أفلح ثم بدا له فسأله إبطال الكتابة دون أن يعجز ؟ فأجابه إلى ذلك فرده عبدا ثم أعتقه بتلا . وقد ذكر ذلكمخرمة بن بكير عن أبيه : أنه لا بأس به . وبه يقول أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو سليمان . وقال هؤلاء : تعجيز المكاتب جائز بينه وبين سيده دون السلطان ، إلا أن لمالك قولا ، أنه لا يجوز التعجيز إلا بحكم السلطان . ثم اختلف القائلون بتعجيزه . روينا من طريق حماد بن سلمة ، وابن أبي عروبة كلاهما عن قتادة عن خلاص بن عمرو عن علي بن أبي طالب قال : إذا عجز المكاتب استسعى حولين - زاد ابن أبي عروبة فإن أدى ، وإلا رد في الرق - وبهذا يقول الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح - ولم يقل جابر ، ولا ابن عمر بالتلوم ، بل أرقه ابن عمر ساعة ذكر أنه عجز - وبه يقول أبو سليمان ، وأصحابنا . وروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرحمن عن الشعبي أن علي بن أبي طالب قال في المكاتب يعجز : إنه يعتق بالحساب - يعني بحساب ما أدى . وقال ابن أبي ليلى ، والحكم بن عتيبة ، والحسن بن حي ، وأبو يوسف ، وأحمد بن حنبل : لا يرق حتى يتوالى عليه نجمان لا يؤديهما . وقال الأوزاعي : إذا عجز استوفي به شهران . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : إذا عجز استوفى به ثلاثة أيام فقط ثم يرق - وقال مالك : يتلوم له السلطان بقدر ما يرى .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار قال : قال جابر بن زيد : إذا عجز المكاتب استسعى ، وقد ذكرنا قبل قول عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وشريح إذا أدى النصف فلا رق عليه ، وهو غريم - وهو صحيح عنهم . وقول ابن مسعود : إذا أدى ثلث كتابته فهو غريم . وقول إبراهيم : إذا أدى ربع كتابته فهو غريم . وقول عطاء : إذا أدى ثلاثة أرباع كتابته فهو غريم . [ ص: 247 ] وقول ابن مسعود وشريح : إذا أدى قيمته فهو غريم - وهو قول صحيح عنهما . قال أبو محمد : ما نعلم لشيء من هذه الأقوال حجة ، وأعجبها قول من حد التلوم ثلاثة أيام أو بشهرين ، ومن جعل ذلك إلى السلطان أفرأيت إن لم يتلوم له السلطان إلا ساعة ، إذ رأى أن يتلوم له خمسين عاما . ثم نقول لجميعهم : لا تخلو الكتابة من أن تكون دينا لازما ، أو تكون عتقا بصفة لا دينا ، ولا سبيل إلى ثالث أصلا ، لا في الديانة ولا في المعقول . فإن كانت عتقا بصفة فالواجب أنه ساعة يحل الأجل فلا يؤديه ، فلم يأت بالصفة التي لا عتق له إلا بها - فقد بطل عقده ولا عتق له ، ولا يجوز التلوم عليه طرفة عين ، كمن قال لغلامه : إن قدم أبي يومي هذا فأنت حر فقدم أبوه بعد غروب الشمس فلا عتق له . وهذا قول أصحابنا - وهو قول جابر ، وابن عمر .

                                                                                                                                                                                          وقد تناقضوا أقبح تناقض ، ومنعوا من بيعه - وإن لم يؤد شيئا - . فصح أنها ليست عندهم عتقا بصفة ، أو يكون دينا واجبا ، فلا سبيل إلى إبطاله . كما روينا عن جابر بن زيد فنظرنا في ذلك . فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حكم بشروع العتق فيه بقدر ما أدى . فصح يقينا أنها دين واجب يسقط منه بقدر ما أدى منه كسائر الديون وأنه ليس عتقا بصفة أصلا ; لأن أداء بعض الكتابة ليس هو الصفة التي تعاقدا العتق عليها ، فإذ هي كذلك فقد قال الله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } وقال تعالى : { أوفوا بالعقود } فوجب الوفاء بعقد الكتابة ، وأنه لا يجوز الرجوع فيها بالقول أصلا - ووجبت النظرة إلى الميسرة ولا بد .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فإذ هي دين كما تقول ، فهلا حكمتم به - وإن مات العبد أو السيد ، أو خرج عن ملكه - كما حكمتم في سائر الديون ؟ قلنا : لم نفعل ; لأن ذلك ليس دينا مطلقا ، وإنما هو دين يصح بثبات الملك ، ويبطل ببطلان الملك ، لأنه إنما وجب للسيد بشرط أن يعتقه بأدائه على العبد بشرط أن [ ص: 248 ] يكون بأدائه حرا فقط - بهذا جاء القرآن ، وفسرته السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فإذا مات السيد فقد بطل وجود المعتق ، فبطل الشرط الذي كان عليه ، وبطل الشرط عن العبد ، إذ لا سبيل إلى تمامه أبدا . وإذا مات العبد فقد بطل وجوده ، وبطل الشرط الذي كان له من العتق ، فبطل دين السيد ، إذ لا سبيل إلى ما كان يستحق ذلك الدين إلا به ، وإن خرج عن ملكه فكذلك أيضا قد بطل عتقه في عبد غيره ، فبطل ما كان له من الدين مما لا يجب له إلا بما قد بطل ، ولا سبيل إليه - . وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية