الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الجناية الثانية

                                                                                                                الردة


                                                                                                                نسأل الله تعالى العافية منها ومن غيرها ! والنظر في حقيقتها وحكمها !

                                                                                                                النظر الأول : في حقيقتها : وهي عبارة عن قطع الإسلام من مكلف - وفي غير البالغ خلاف - إما باللفظ أو بالفعل كإلقاء المصحف في القاذورات ، ولكليهما مراتب في الظهور والخفاء ، ولذلك لا تقبل الشهادة فيها إلا على التفصيل ، ولختلاف المذاهب في التكفير .

                                                                                                                والأصل : حمله على الاختيار في دار الحرب وغيره حتى يثبت الإكراه فيسقط اعتباره لقوله تعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) .

                                                                                                                وفي هذا الطرف سبع مسائل :

                                                                                                                الأولى : في الجواهر : روى ابن القاسم ، إن أسلم ، ثم ارتد عن قرب ، وقال : أسلمت عن ضيق ، إن عرف أنه عن ضيق ناله أو خوف ونحوه عذر ، وقاله ابن القاسم ، وقال أشهب : لا يعذر ويقتل وإن علم أنه عن ضيق ، وقاله ( ش ) ; لأن الإكراه على الإسلام مشروع كما في الحربيين ، جوابه : أنه مسلم فيهم لعدم العهد ، أما الذمي : فعهده يمنع الإكراه فلا يثبت منه إسلام حقيقي مع اختيار .

                                                                                                                قال أصبغ : قول مالك أحسن ، إلا أن يثبت على الإسلام بعد الخوف . قال محمد [ ص: 14 ] في النصراني : يصحب القوم في سفر فيظهر الإسلام ويتوضأ ويصلي وربما أمهم ، فلما أمن قال : تحصنت بالإسلام لئلا تؤخذ بناتي ونحو ذلك ، له إن أشبه ما قال ، ويعيدون ما صلوا خلفه في الوقت وبعده ، وقالهمالك ، وقال سحنون : إن كان في موضع يخاف على نفسه فدارى عنها وعن ماله فلا شيء عليه ، ويعيد القوم صلاتهم ، أو في موضع هو فيه آمن عرض عليه الإسلام ، إن أسلم لم يعيدوا صلاتهم وإلا قتل وأعادوا .

                                                                                                                قاعدة : الإكراه مسقط لاعتبار الأسباب كالبيع والطلاق وغيرهما ، والردة سبب الإهدار والإسلام سبب العصمة فيسقطان مع الإكراه ، غير أن ( ش ) اشترط الإكراه على غير الذمي يقضي بإسقاطه فلا بد أن يلزمه على الطلاق . وإلا لا يسقط ، وكذلك سائر الأسباب ، ونحن نلاحظ المعنى ، فمتى ألجئ للشيء بالخوف على غيره وإن لم يقصده المكره له ، عد إكراها فيه ، وهو مقتضى الفقه ; لأن المقصود وقوع التصرف على خلاف الداعية والاختيار ، وأنه صار كالآلة ، وما فيه من الداعية منسوب للمكره ، لا له .

                                                                                                                الثانية : في النوادر . قيل لراهب : أنت عربي عرفت فضل الإسلام فما منعك منه ؟ قال : كنت مسلما زمانا ولم أره خيرا من النصرانية فرجعت إليها ، وقال : عند [ ص: 15 ] الإمام كنت كاذبا ، قال ابن وهب : لا يعاقب ولا يستتاب إلا أن يشهد عليه من رآه يصلي ولو ركعة .

                                                                                                                الثالثة : قال : قال ابن القاسم : إن قال أسلمت مخافة الجزية أو أمر أظلم فيه ، قبل منه ، وليس كالمرتد ، ولو اشترى مسلمة فأخذ معها فقال : أنا مسلم ، واعترف أنه إنما قال ذلك لمكانها ، لا يلزمه إلا الأدب دون السبعين سوطا ( قاله ابن القاسم ) .

                                                                                                                الرابعة : قال : إن ارتد ولد المسلم المولود على الفطرة وعقل الإسلام ولم يحتلم ، قال ابن القاسم : يجبر على الإسلام بالضرب والعذاب ، فإن احتلم على ذلك ولم يرجع قتل ، بخلاف الذمي يسلم ثم يرتد وقد عقل ، ثم يحتلم على ذلك ، وفرق بينهما ، وليس كذلك المرتد ، وجعلهم أشهب سواء ، ويرد إلى الإسلام بالسوط والسجن . وقال ( ش ) : لا تنعقد ردة الصبي والمجنون ولا إسلامهما ، وله في السكران بمعصية قولان . ومنع ( ح ) في السكران الإسلام والردة ، وقال أصبغ وابن حنبل : يصح إسلام الصبي وردته ، غير أن ( ح ) قال : تبين امرأته ويزول ملكه ولا يقتل ، وقال ابن حنبل : يقتل بعد البلوغ بثلاثة أيام للاستتابة .

                                                                                                                لنا قوله عليه السلام : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) في الحديث ، و ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ) وقياسا على الصلاة والحج ، وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، فأول الصبيان إسلاما علي - رضي الله عنه - [ ص: 16 ] وهو ابن ثمان ، وكذلك الزبير ابن ثمان ، وهو كثير ، وإذا صح إسلامه فكذلك ردته ، لأنهما معنيان يتقرران في القلب كالبالغ .

                                                                                                                احتجوا بقوله - عليه السلام - : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ) ، وأنه لا يصح إقراره ولا طلاقه ولا عقوده ، فلا تصح ردته وإسلامه كالمجنون .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن رفع القلم رفع الإثم ، ونحن لا نؤثمه حينئذ ، بل نعتبره شيئا يظهر أمره بعد البلوغ .

                                                                                                                الجواب عن الثاني : أن هذه أعظم خطرا ، فاعتبرت بخلاف غيرها ، فإن قاسوا على قتل الآدمي فإنه لا يوجب عليه قتلا بعد البلوغ قريبا بذلك ، ويؤكد ما قلناه أن الأسباب العقيلة معتبرة من الصبي والمجنون ، كالاصطياد والاختطاف وإحبال الإماء ، والكفر والإيمان فعلان للقلب فاعتبرا .

                                                                                                                قاعدة : خطاب التكليف يفتقر إلى العلم والقدرة وأهلية التكليف ، وخطاب الوضع لا يفتقر لشيء من ذلك في أكثر صوره ، وهو وضع الأسباب والشروط والموانع ، كالتطليق بالإعسار ، والتوريث بالأسباب ، والضمان بالإتلاف ، والزكاة بملك النصاب ، وغير ذلك . ومقتضى هذه القاعدة اعتبار الإسلام والكفر من الصبيان ; لأنهما سببان للعصمة والإهدار ، وكذلك الطلاق والقتل [ ص: 17 ] والبيوع والعقود والتصرفات كلها ، لأنها أسباب ، غير أن ثمة فروقا وأسرارا نذكرها في أبواب الفقه في هذه الفروع ، غير أن هذه القاعدة في هذه المسألة معنا ، فننبه بهذه القاعدة على فروعها ، والسعي في الفرق مما استثني عنها فإنها جليلة .

                                                                                                                تنبيه : الطلاق والعقود ينبني عليها فوات مصالح في الأعراض والمعوضات ، فاشترط فيها رضاه المطابق للمصلحة غالبا ، وذلك إنما يكون بعد البلوغ وكمال العقل المدرك لذلك ، فلم يعتبر قبل البلوغ ، والكفر والإيمان حق الله تعالى ، فلم يكن رضاه المعتبر معتبرا فيها ، إذ ألحق لغيره ، كالجنايات بالإتلاف وغيره ، فهذا سرها من حيث الإجمال ، والتفصيل يذكر في مواضعه .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال ابن القاسم : إن طلقت النصرانية وغفلت عن ولدها منك حتى احتلم على النصرانية ترك ( وكذلك إن أسلم وترك ) ولده الصغير حتى كبر ، قاله مالك ، وقال ابن القاسم وأشهب : يجبر على الإسلام ; لتعين إسلامه الحكمي بإسلام أبيه ، وقال ابن عبد الحكم : إلا أن يكون وقت الإسلام ابن اثنتي عشرة سنة ، لستقلاله بالنظر حينئذ ، وإن مات أبوه وقف ميراثه ، إن ثبت بعد البلوغ نصرانيا لم يرثه ، وإلا ورث ، وإن أسلم قبل البلوغ ورث أيضا ، إن كان وقت الإسلام ابن ست فهو مسلم . قال مالك : إن أسلم والولد مراهق ، وقف الميراث إلى البلوغ ، إن أسلم ورث وإلا ترك ولم يرث . قال ابن القاسم ، ولا يقبل منه قبل البلوغ إن قال لا أسلم وإن احتلمت ، وإن أسلم الآن لم يعط الميراث للبلوغ ، والمرتد قبل البلوغ لا يصلى عليه [ ص: 18 ] ولا تؤكل ذبيحته . قال سحنون : من رأى عدم الصلاة عليه كانت ردته فرقة من امرأته وإلا فلا ، والأولى قول ابن القاسم في الصبي والصبية ، وإن أسلم وعقل الإسلام ، وارتد قبل البلوغ ومات ورثه أهله لضعف إسلامه ; لأن مالكا يكرهه بالضرب وإن بلغ ، والمغيرة يقتله إن تمادى بعد البلوغ ، وأما المرتد من أولاد المسلمين فأجمع أصحابنا على قتله إذا بلغ وتمادى . قال مالك : إن تزوجت نصرانية فلما بلغ أولادها قالوا لا نسلم ، لا يجبرون على الإسلام ولا يقتلون ; لأن الخلاف في تبعهم لأمهم .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية