الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد

"حاجوك" فاعلوك من الحجة، والضمير في حاجوك لليهود ولنصارى نجران، والمعنى: إن جادلوك وتعنتوا بالأقاويل المزورة، والمغالطات، فأسند إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ، وعلى الله نصرك.

وقوله "وجهي" يحتمل أن يراد به المقصد كما تقول: خرج فلان في وجه كذا، فيكون معنى الآية: جعلت مقصدي لله، ويحتمل أن يكون معنى الآية: أسلمت شخصي وذاتي وكليتي; وجعلت ذلك لله. وعبر بالوجه إذ الوجه أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس. وقد قال حذاق المتكلمين في قوله تعالى: ويبقى وجه ربك أنها عبارة عن الذات. [ ص: 182 ] "أسلمت" في هذا الموضع بمعنى دفعت وأمضيت، وليست بمعنى دخلت في السلم لأن تلك لا تتعدى. وقوله: ومن اتبعن في موضع رفع، عطف على الضمير في "أسلمت"، ويجوز أن يكون مبتدأ، أى: ومن اتبعن أسلم وجهه. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون في موضع خفض عطفا على اسم الله تعالى كأنه يقول: جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له، ولمن اتبعن بالحفظ له والتحفي بتعليمه وصحبته. ولك في "اتبعن" حذف الياء وإثباتها، وحذفها أحسن اتباعا لخط المصحف. وهذه النون إنما هي لتسلم فتحة لام الفعل، فهي مع الكسرة تغني عن الياء لا سيما إذا كانت رأس آية، فإنها تشبه بقوافي الشعر، كما قال الأعشى:


وهل يمنعن ارتيادي البلاد ... من حذر الموت أن يأتين



ومن ذلك قوله تعالى: ربي أكرمن ، فإذا لم تكن نون فإثبات الياء أحسن، لكنهم قد قالوا: هذا غلام قد جاء، فاكتفوا بالكسرة دلالة على الياء.

و ( الذين أوتوا الكتاب ) في هذا الموضع يجمع اليهود والنصارى باتفاق. والأميون: هم الذين لا يكتبون، وهمالعرب في هذه الآية، وهذه النسبة هي إلى الأم أو إلى الأمة أي كما هي الأم، أو على حال خروج الإنسان عن الأم، أو على حال الأمة الساذجة قبل التعلم والتحذق.

وقوله: "أأسلمتم" تقرير في ضمنه الأمر، كذا قال الطبري وغيره، "وذلك بين"، وقال الزجاج "أأسلمتم" تهدد، وهذا حسن، لأن المعنى: أأسلمتم أم لا؟ [ ص: 183 ] وقوله: فقد اهتدوا جاءت العبارة بالماضي مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى لهم وتحصله.

وقوله تعالى: فإنما عليك البلاغ ، ذكر بعض الناس أنها آية موادعة، وأنها مما نسخته آية السيف. وهذا يحتاج أن يقترن به معرفة تاريخ نزولها، وأما على ظاهر نزول هذه الآية في وقت وفد نجران فإنما المعنى: فإنما عليك البلاغ بما فيه قتال وغيره، والبلاغ مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل. وفي قوله تعالى: والله بصير بالعباد وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين..

التالي السابق


الخدمات العلمية