الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 143 ] الركن الثاني ، المسروق وله ستة شروط :

                                                                                                                الشرط الأول : النصاب ، وفي الكتاب : إن سرق زنة ربع دينار ذهبا ، قطع ، وإن كانت قيمته درهما ، وإن نقص الوزن ، لم يقطع ، فإن ساوى أكثر من ثلاثة دراهم ، قطع ، وكذلك الفضة ، وإنما يقوم غير الذهب والفضة ، فإن وصلت قيمته ثلاثة دراهم ، قطع ، وإن لم يصل ربع دينار من الذهب ، وإن ساوى ربع دينار من الذهب ، ولم يساو ثلاثة دراهم ، لم يقطع ، وإنما يقوم بالدراهم ، ودينار السرقة ، والدية اثنا عشر درهما ، ارتفع الصرف ، أو انخفض . ووافقنا أحمد : أن أصل الورق ثلاثة دراهم . وقال ( ح ) : النصاب دينار أو عشرة دراهم ، وبها يقوم . وقال ( ش ) : النصاب ربع دينار ، وتقوم الدراهم بالذهب ، فإن ساوت ربع دينار ذهبا ، وإلا فلا ، وكذلك العروض . وإن ساوى ربع دينار الذهب ، أقل من ثلاثة دراهم ، لم يقطع . لنا : قوله تعالى : ( والسارق والسارقة ) ، ولم يفرق ، فلا يشترط الدينار ، بل يكفي أقل المال ولو فلسا ، وقد قال به جماعة . وفي الصحيح : - قال عليه السلام - : ( لعن الله السارق يسرق البيضة فيقطع ) ، وفي الصحيح : ( يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا ) ، وفيهما قطع - عليه السلام - في مجن قيمته ثلاثة دراهم . وفي أبي داود : قطع - صلى الله عليه وسلم - من سرق ترسا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم . ومذهبنا مروي عن أبي بكر وعمر ، [ ص: 144 ] وعثمان ، وعائشة وغيرهم من غير نكير ، فكان إجماعا . احتجوا بما روي أنه - عليه السلام - قطع في مجن قيمته عشرة دراهم ، وأنه - عليه السلام - قال : ( لا قطع في أقل من عشرة دراهم ) ; ولأن تعارض الأخبار ، شبهة توجب سقوط الحد .

                                                                                                                وجوابه الأول : القول بالموجب . فإن القطع في العشرة ، متفق عليه ، ولا يلزم منه أن لا يقطع في أقل منه .

                                                                                                                وعن الثاني : أن أخبارنا أرجح ; للاتفاق على صحتها وموافقتها لظاهر القرآن ، والراجح لا شبهة معه . واحتج ( ش ) بما في الحديث : ( لا قطع إلا في ربع دينار ) . والدينار اسم للذهب دون غيره ، فنفي القطع في غيره صريحا . وأما قوله : ثمنه أو قيمته ثلاثة دراهم ، فقضية عين يحتمل أنها أصل ، أو أنها وصلت ربع دينار ، فيسقط ويرجع إلى الصريح ، وهو كما لو قال : قيمته عشرة آصع من التمر ، فيعلم أن الآصع وصلت ربع دينار ، وإنما خصص الدراهم بالذكر ; لأنها غالب نقد البلد ، فلا يكون النصاب إلا الذهب ، وغيره . والجواب على هذا الكلام وإن كان قويا : أن عائشة وابن عمر وغيرهما من الرواة ، إنما ذكروا الدراهم ; لبيان تأسيس قاعدة النصاب ، فوجب أن تكون هي المعتبرة ، ولو كان الذهب هو الأصل فقط ; لعينه الراوي ; لأنه لا ضرورة إلى ذكر غيره ; ولأن باب الذهب فيه أصل ، فوجب أن تكون الفضة أصلا أيضا ، كالزكاة ولهم قلب هذا القياس ، [ ص: 145 ] فيقولون : فلا يختص التقويم بالدراهم ، كالزكاة ، وبالجملة : الموضع محتمل ، وكلامهم قوي .

                                                                                                                تفريع

                                                                                                                في التنبيهات : يختص التقويم بالدراهم ، كانت المعاملة بالدراهم في البلد ، أو بالذهب ، ( قاله معظم الشيوخ والشراح ) ، وقال ابن عبد الحكم : يختص النصاب بالذهب كما قال ( ش ) ، قال بعض الشيوخ ، وهو الأصل ; لظاهر الحديث المتقدم . وقال جماعة من البغداديين والمغاربة : إن التقويم بنقد البلد كيف كان : دراهم أو ذهبا ، وإن معنى ما في الكتاب محمول على أن المعاملة بالدراهم حينئذ ، وإن كانت المعاملة بهما جميعا ، فأكثرهما كسائر التقويمات . في المقدمات : وقد قال في الكتاب في الذهب أرسلت منه بربع دينار ، قطع ، فاعتبر الذهب ، وفي الشاة : إن كانت قيمتها يوم خرج بها ربع دينار ، قطع ، فنصوص الكتاب تشير إلى ما قاله هذا القائل . قال صاحب النكت : التقويم عند مالك بالدراهم في بلد تباع فيه العروض بالدراهم ، أو بالدراهم والدنانير ، فإن كان إنما يباع بالعروض ، فبالذهب ، ويحمل الحديثان على حالين . وقوله : إنما تقوم الأشياء بالدراهم يريد : في بلد تباع فيه العروض بالدراهم خاصة ، وإن كان يباع بالدراهم والدنانير ، استحب التقويم بالدراهم . وقال بعض الصقليين : إذا كان البلد لا يتعامل فيه بالنقدين ، بل بالعروض ، قومت بالدراهم في أقرب المواضع المتعامل فيها بالنقدين ، فإن سرق نصف ربع دينار ذهبا ودرهما ونصفا ، قطع ، أو عرضا قيمته درهم ، ونصف وورق ، أو ذهب نصف نصاب ، قال ابن القاسم : إن نقصت الثلاثة دراهم خروبة ، لم يقطع ; لأن نقصانها ربع درهم أو خمس . قال أصبغ : يقطع في مثل الحبتين من كل درهم . قال بعض القرويين‌ : إن كان في الدراهم نحاس [ ص: 146 ] كثير ، اعتبر ما فيها من الفضة ، إلا أن يكون النحاس يسيرا جدا . والنحاس المكسر ، عرض يقوم ويكمل بقيمة النصاب . قال ابن دينار : ويعتبر في المصاغ وزنه دون قيمته ، وقال جماعة من الصقليين : تعتبر في الحلي المربوط بالحجارة وزنة الحلي ، وقيمة الحجارة ، كانت تبعا أو الحلي تبعا .

                                                                                                                نظائر : الدنانير خمسة : دينار السرقة ، والدية والنكاح : اثنا عشر درهما ، ودينار الجزية والزكاة : عشرة دراهم ، ( قاله ابن يونس ) .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : إن سرق ما قيمته ثلاثة دراهم وهي لرجلين ، قطع ; لأنه نصابا ، وإن سرق ما قيمته ثلاثة دراهم من الطعام الذي لا يبقى ، كاللحم والقثاء ، قطع ، والأترجة التي قطع فيها عثمان - رضي الله عنه - كانت تؤكل لا ذهبا ، وقاله ( ش ) ، وقال ( ح ) : لا يقطع . لنا : عموم الكتاب ، والسنة ، والقياس ، بجامع المالية . احتجوا بقوله - عليه السلام - : ( لا قطع في ثمر ولا كنز ) ولأنه يفيد البقاء ، فضعفت ماليته عن صور الإجماع .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن بقية الحديث : ( فإذا أواه الجرين ففيه القطع ) .

                                                                                                                وعن الثاني : إنما يرد الفرق على المثبت بالقياس ، أما عمومات النصوص ، فلا تخصص بالفروق ، فإنه يمكن أن يقال في قوله تعالى : ( ولا تقتلوا النفس ) مخصص بالرجل أو بالعلماء ; لأن من عداهم انقص رتبة ، وقد قطع عثمان في الأترجة ، [ ص: 147 ] وقومها بثلاثة دراهم ، ولم ينكر عليه أحد ، فكان إجماعا ، ولو كانت ذهبا لم تقوم . في التنبيهات : قيل : كانت ذهبا قدر حمصة يجعل فيها الطيب .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : سارق الماء والحجر إذا كانت قيمته ثلاثة دراهم ، يقطع ، وكذلك البازي ، وكذلك سباع الوحش إن كانت جلودها إذا ذكيت قبل أن تدبغ نصابا ; لأن لصاحبها بيع جلود ما ذكي منها ، والصلاة عليها وإن لم تدبغ .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال : إن سرق عبدا فصيحا كبيرا يقطع ، أو أعجميا ، قطع ، وكذلك الصبي الصغير ، وخالفنا الأئمة . لنا : لعموم الآية : والإثم صادق على سارق الصبي الحر وغيره ، وذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سارق الصبيان فأمر بقطعه ، وهو نص في التسمية والحكم ; ولأنه نفس مضمونة بالجناية ، فيقطع بسرقتها ، كالبهيمة ، أو بجامع أنه غير مميز ، سرق من حرزه ، أو قياسا على المملوك . احتجوا بقوله - عليه السلام - : ( لا قطع إلا في ربع دينار ) ، وهذا ليس بربع دينار ، فلا يقطع ; ولأن الحر لا يحرز في العادة ، فهو سارق من غير حرز ، وقياسا على الكبير النائم .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أنه عام في أفراد القطع مطلق فيما يقطع فيه ، وقد عين من ذلك المطلق ربع دينار ، فمفهوم الحصر يقتضي نفي القطع عن غيره ، فيختص ذلك المفهوم بذلك الجنس وهو الأموال ، سلمنا عمومه ، لا كنا نخصصه بالأدلة المتقدمة ، وبأنه إذا سبقه أبطل نفسه بالبيع وميراثه ، وحد قذفه وديته ، وإن كانت [ ص: 148 ] أنثى ، أحل فرجها ، وأسقط صداقها ، وقطع ولاية أوليائها ، وهذا من الفساد العظيم في الأرض ، أعظم من ربع دينار ، والفساد قد جعل الله تعالى فيه القطع والقتل في الحرابة .

                                                                                                                وعن الثاني : أن يجعل معه من يحفظه ، أو في مكان يغلب على الظن أنه لا يفارقه ، فهو حرز له ، كالغنم في المراح .

                                                                                                                وعن الثالث : الفرق أنه لا يحل ، ولا يمكن من بيع نفسه ، بخلاف الصغير ، قال ابن يونس : قال أشهب : ذلك إذا كان الصغير لا يعقل ، وإلا قطع ، وقال عبد الملك : لا قطع مطلقا ، قال اللخمي : إن سرق حليه وهو كبير يحرز ما عليه ، أو صغير ، أو معه من يحفظه ، أو في دار أهله ، قطع ، أو صغير لا يحفظ ما عليه خارجا عن دار أهله ، أو فيها والسارق أذن له في الدخول ، فيقطع ، قال ابن القاسم : أو أخذ على وجه الخديعة ، أو كابره ، فيه الأدب إن كان كبيرا ، والصغير علمه وعدمه سواء . وفي المنتقى : حكى في الجلاب روايتين في خلخال الصبي أو شيء من خليته ، القطع إن كان في دار أهله أو بنانهم ، والأخرى ، عدم القطع مطلقا ولم يذكر تفصيلا ، فيحمل على الصغير الذي لا يمنع نفسه . .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : إن سرق ثوبا لا يساوي ثلاثة دراهم فيه دراهم لم يعرف بها ، قطع في الثوب ، ونحوه مما عادة الناس الدفع فيه ، بخلاف الخشبة والحجر ، لا يقطع إلا فيما قيمته نفسه نصاب . قال ابن يونس : قال بعض فقهائنا : لو سرق خرقة ، العادة عدم الدفع فيها لزنابها ، لم يقطع بما فيها إذا لم يعرف به ، قال أصبغ : إن سرق ليلا [ ص: 149 ] عصا مفضضة وفضتها ظاهرة فيها أكثر من ثلاثة دراهم ، وقال : لم أر الفضة بالليل ، وظن به ذلك ، لم يقطع ، كما لو كانت الفضة داخلها .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الجواهر : إن سرق دون النصاب ولم يعلم به حتى سرق قيمته : قال أشهب : لا يقطع حتى يخرج في مرة ما قيمته ثلاثة دراهم ; لأنه لم يصدق عليه أنه أخرج نصابا من حرز ، وقال سحنون : وإن كان في فور واحد قطع ; لأن هذا من وجه الحيلة على أموال الناس ، فإن أخرج نصابا من حرزين : قال عبد الملك : لا يقطع ، كالنصاب في مرتين ، وإن كان لرجل حانوتان في دار ، فسرق رجل من كل واحدة درهما ونصفا ، لم يقطع إن كانت دارا مشتركة ، وإن أخرج ذلك من الدار كلها ، قطع ولو لم تكن مشتركة ، وأخرج ذلك من الدار كلها قطع ، وإن أخر فيها ، لم يقطع .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال : المعتبر في قيمة المنفعة : المقصود من العين عادة وشرعا ، فيقوم الحمام المعروف بالسبق والإجابة على أنه ليس فيه ذلك ; لأنه ينمو ، وتقوم سباع الطير المعلمة بتعليمها ، وعن أشهب : التسوية بينهما ، وهو نحو قول مالك في قتل المحرم إياه .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : يقوم السرقة أهل العدل والنظر ، فإن اختلفوا ، واجتمع عدلان ، قطع ، وإلا فلا يقطع برجل واحد ; لعظم شأن الحدود . قال الطرطوشي : قال مالك : تعتبر القيمة يوم السرقة لا يوم القطع ; لعدم الحكم بالقطع والتقويم أم لا [ ص: 150 ] فإن تعارض في التقويم عدلان وعدلان ، حكم بأقربهما إلى السداد ، ووافقنا ( ش ) ، وقال ( ح ) : إن نقصت قبل القطع ، امتنع القطع ، ووافقنا على أنه إن نقصت لهلاك بعضها أو هلاكها ، لا يسقط القطع ، ومنشأ الخلاف . النظر إلى حال النهاية ; لأنه لو رجع الشهود بطل القطع ، ونحن نعتبر حال الابتداء ، بدليل نقصان العين في ذاتها . لنا : الآية والأخبار المتقدمة في النصاب ، والقياس على نقصان العين ، بل أولى ; لأن حوالة الأسواق لرغبات الناس ، وهو أمر خارج عن العين ، ويرجى زواله ، ولأن القطع شرعا ; زجرا عن الجرأة على الأموال ، والجرأة حصلت وقت السرقة على النصاب ، فتعين القطع . احتجوا بقوله - عليه السلام - : ( لا قطع إلا في ربع دينار ) ، وهذا ليس ربع دينار ، ولأن القيمة مظنونة ، فإذا وجدناها نقصت ، اتهمنا المقومين ، أو لا فيكون بسببه يسقط الحد ، ولأنه معتبر انتقض ، فيبطل الحد ، كالرجوع عن الإقرار ، البينة ترجع .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن في الحديث للسببية ، لاستحالة أن يكون القطع مصروفا للنصاب ، بل معناه : لا قطع إلا بسبب أخذ ربع دينار ، لقوله - عليه السلام - : ( في النفس المؤمنة مائة من الإبل ) ، أي : بسبب قتلها ، وهو كثير .

                                                                                                                وعن الثاني : أن الكلام حيث كان النص لتغير السوق ، لا مع بقائه .

                                                                                                                وعن الثالث : أنه يبطل بنقص العين ، فإن فرقوا بأن نقصان العين يضمن لحق آدمي فضمن لحق الله تعالى ، أو لأن نقصان العين مضمون على السارق ، فلما تقرر [ ص: 151 ] بدله في ذمته ، لم يسقط القطع لوجود النصاب ، بعضه في ذمته ، وبعضه موجود . فلنا : حق الله تعالى تعلق بالعين دون القيمة ، بدليل أنه لو أكل الطعام في الحرز لم يقطع ، وأما حق الآدمي - وهو القيمة - فلا يترتب إلا عند عدم العين .

                                                                                                                وعن الرابع : أن ما في الذمة غير مسروق والقطع في غير المسروق باطل .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في المقدمات : إن نقصت الدراهم نقصا لا تتفق عليه الموازين ، قطع ، فإن كانت يتعامل بها عددا وتنقص ثلاث حبات كل درهم ، ففي المدونة : لا يقطع ، وإن جازت لحواز الوازنة خلاف الزكاة ، والفرق : أن الاحتياط إيجاب الزكاة وعدم القطع ، فيحصل الاحتياط بها .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية