الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) .

                          لما أنبأ الله رسوله بأن من قومه من لا يؤمن بهذا القرآن حالا ولا استقبالا ، إذ لا ينفعهم البيان مهما يكن ناصعا ، ولا ينفعهم البرهان وإن كان قاطعا ، وأن الذي عليه في المصرين على تكذيبه منهم بعدما جاءهم به من الآيات ، التي دمغتهم بالحجج البينات ، أن يتبرأ منهم ، وينتظر أمر الله فيهم ، كان من شأن هذا النبأ أن يثير عجبه لغرابته في نفسه ، وأن يسوءه لما يشير إليه من انتقام الله منهم ، بين له مثل الذين فقدوا الاستعداد للإيمان ، وعلمه ما لم يكن يعلمه من سنة الله تعالى فيهم ، وكون مصيبتهم من أنفسهم ، فلا حول له ولا قوة على هدايتهم ، فقال :

                          ( ومنهم من يستمعون إليك ) أي يصيخون بأسماعهم مصغين إليك إذا قرأت القرآن ، أو بينت ما فيه من أصول الإيمان والأحكام ، ولكنهم لا يسمعون إذ يستمعون ; إذ لا يتدبرون القول ولا يعقلون ما يراد به . ولا يفقهون ما يرمي إليه ; لأن الاستماع إليك مقصود عندهم [ ص: 314 ] لذاته لا لما يراد به ، وهي بلاغته في غرابة نظمه ، وجرس الصوت بترتيله ، كمن يستمع إلى طائر يغرد على فننه ; ليستمتع بصوته لا ليفهم منه ، كما قال : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم ) ( 21 : 2 و 3 ) أو كالبهائم يصيح بها الراعي فترفع رءوسها لاستماع صوته الذي راعها فصرفها عن رعيها ، كما قال : ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) ( 2 : 171 ) أو كما قال : ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) ( 6 : 25 ) والقاعدة الطبيعية الشرعية أن الأمور بمقاصدها . ونحن نرى كثيرا من الناس يقصدون قراء القرآن في ليالي رمضان أو في المآتم ، ليستمعوا إلى فلان القارئ الحسن الصوت لغرض التلذذ بترتيله وتوقيع صوته أو بلاغته ، ولا أحد منهم ينتفع بشيء من مواعظ القرآن ونذره ، وحكمه وعبره ، ولا عقائده وأحكامه ، ومنهم المسلمون وغير المسلمين ، بل سمعت بأذني من غير المسلمين من يستمع القرآن ويعجب من شدة تأثيره وتغلغله في أعماق القلب وهو لا يؤمن به ; ولهذا قال تعالى : ( أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ) هذا الاستفهام للإنكار ، يعني أن السماع النافع للمستمع هو ما عقل به ما يسمعه وفقهه وعمل بمقتضاه ، فمن فقد هذا كان كالأصم الذي لا يسمع ، وأنت أيها الرسول لم تؤت القدرة على إسماع الصم أي فاقدي حاسة السمع حقيقة ، فكذلك لا تستطيع الإسماع النافع للصم مجازا وهم الذين لا يعقلون ما يسمعون ولا يفقهون معناه فيهتدوا به . والبلاغة في ظاهر تعبير الآية وصفهم بفقد السمع والعقل معا ، وهو مجاز قطعا ; لأن من فقد الحس والعقل حقيقة لا يكون مكلفا . وإذ كان المراد بالعقل المنفي هنا عقل الكلام وفقهه ، فهو يقتضي ثبوت السماع ونفي الصمم الحقيقيين .

                          ( ومنهم من ينظر إليك ) أي يوجه أشعة بصره إليك عندما تقرأ القرآن ، ولكنه لا يبصر ما آتاك الله من نور الإيمان ، وهيبة الخشوع للديان ، وكمال الخلق والخلق ، وأمارات الهدي والحق ، وآيات التزام الصدق ، التي عبر عنها أحد أولي البصيرة بقوله عندما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - : والله ما هذا بوجه كذاب ، وقال فيه آخر :


                          لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تنبيك بالخبر



                          وقال حكيم إفرنجي : كان محمد يقرأ القرآن في حالة وله وتأثر وتأثير ، فيجذب به [ ص: 315 ] إلى الإيمان أضعاف من جذبتهم آيات موسى وعيسى ( عليهم السلام ) .

                          ومن فقد البصيرة العقلية والقلبية فيما يراه ببصره ، فجمع بين وجود النظر الحسي بالعينين ، وعدم النظر المعنوي بالعقل ، فهو محروم من هداية البصر ، وهي البصيرة التي يمتاز بها الإنسان عن بصر الحيوان ، فكأنه أعمى العينين ( أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ) أي أنك أيها الرسول لست بقادر على هداية العمي بدلائل البصر الحسية ، فكذلك لا تقدر على هدايتهم بدلائله العقلية ، ولو كانوا فاقدين لنعمة البصيرة التي تدركها ، وقد أسند فعل الاستماع إلى الجميع لكثرة تفاوت المستمعين واختلاف أحوالهم فيه ، وأسند فعل النظر إلى المفرد لأنه جنس واحد ، ولكنه أفرد السمع وجمع الأبصار في بضع آيات منها ( 31 ) من هذه السورة لما ذكرناه في تفسيرها .

                          والمراد من الآيتين : أن هداية الدين كهداية الحس ، ولا تكون إلا للمستعد لها بهداية العقل ، وأن هداية العقل لا تحصل إلا بتوجه النفس وصحة القصد ، وهذا الصنف من الكفار قد انصرفت أنفسهم عن استعمال عقولهم في الدلائل البصرية والسمعية لإدراك مطلب من المطالب مما وراء شهواتهم وتقاليدهم ، وليس المراد أنهم فقدوا نعمة العقل الغريزي ولا نعمة الحواس ، بل استعمالها النافع - كما قال في سورة الأعراف : ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) ( 7 : 179 ) فراجع تفسيرها للاعتبار والاتعاظ . وقد بين ذلك بيانا مستأنفا بما يبطل القول بالجبر فقال :

                          ( إن الله لا يظلم الناس شيئا ) أي الله تعالى لم يكن من شأنه ولا من سننه في خلق الناس أن ينقصهم شيئا من الأسباب ، التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم ومنافعهم من الأعمال الاختيارية الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة ، وهي الحواس والعقل وسائر القوى فالظلم هنا بمعناه اللغوي الأصلي ، وهو نقص ما تقتضي الخلقة الكاملة وجوده كقوله تعالى : ( كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) ( 18 : 33 ) ( ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) أي يظلمونها وحدها ; لأن عقاب ظلمهم واقع عليهم دون غيرهم ، فهم يجنون عليها بكفرهم بما أنعم الله عليهم من هدايات المشاعر والعقل والدين ، وهو عدم استعمالها فيما منحهم إياها [ ص: 316 ] لأجله من اتباع الحق في الاعتقاد والهدى في الأعمال ، وهو الصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدارين ، المنجي من عذابهما . وقرأ حمزة والكسائي ( ولكن ) بتخفيف النون و ( الناس ) بالرفع .

                          وقد وضع الاسم الظاهر موضع الضمير إذ قال : ( ولكن الناس ولم يقل : ( ( ولكنهم ) ) للإشارة إلى أن هذا الظلم خاص بهم دون سائر أنواع الحيوان ; فإنها لا تعدو في استعمال مشاعرها وقواها ما خلقت لأجله من حفظ حياتها الشخصية ، والنوعية ، وأما الناس فقد يستعملونها فيما يضرهم في حياتهم الحيوانية الدنيوية ، وفي حياتهم الروحية الأخروية ، كما قال : ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) ( 25 : 44 ) وقدم المفعول أنفسهم على عامله لإفادة قصر هذا الظلم على أنفسهم دون غيرهم ، أو دون ربهم الذي كفروا بنعمه ، كما قال تعالى ، في بني إسرائيل من سورة البقرة ( 2 : 54 ) وسورة الأعراف : ( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ( 7 : 160 ) .

                          هذا هو المتبادر في هذا المقام من نفي ظلم الناس عن الله تعالى وقصره على أنفسهم ويحتمل أن يراد به أنه تعالى لا يظلمهم بعقابه لهم شيئا بأن يعاقبهم على غير ذنب أو يزيد على قدر الذنب ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بذنوبهم دون غيرهم ، على قاعدة : ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) ( 6 : 164 ) الآية . فراجع تفسيرها مع ما هنا ، وحاسب نفسك ، وذكر غيرك ، ولا تجعلوا هذه الحكم البليغة حكاية للتسلية بهجو الكفار ، فإنما هي حقائق هادية للموعظة والاستبصار .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية