الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اعلم أن قوله : ( وأولي الأمر منكم ) يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة ، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وإنه محال ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ ، فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما ، ثم نقول : ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة ، لا جائز أن يكون بعض الأمة ؛ لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا ، وإيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم ، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم ، عاجزون عن الوصول إليهم ، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم ، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة ، ولا طائفة من طوائفهم . ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله : ( وأولي الأمر ) أهل الحل والعقد من الأمة ، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : المفسرون ذكروا في " أولي الأمر " وجوها أخرى سوى ما ذكرتم : أحدها : أن المراد من أولي الأمر الخلفاء الراشدون .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : المراد أمراء السرايا ، قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عبد الله بن حذافة السهمي إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - أميرا على سرية . وعن ابن عباس أنها نزلت في خالد بن الوليد ، بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - أميرا على سرية وفيها عمار بن ياسر ، فجرى بينهما اختلاف في شيء ، فنزلت هذه الآية ، وأمر بطاعة أولي الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : المراد : العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم ، وهذا رواية الثعلبي عن ابن عباس وقول الحسن ومجاهد والضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : نقل عن الروافض أن المراد به الأئمة المعصومون ، ولما كانت أقوال الأمة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه ، وكان القول الذي نصرتموه خارجا عنها كان ذلك بإجماع الأمة باطلا .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : أن نقول : حمل أولي الأمر على الأمراء والسلاطين أولى مما ذكرتم . ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الأمراء والسلاطين أوامرهم نافذة على الخلق ، فهم في الحقيقة أولو الأمر ، أما أهل الإجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق ، فكان حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن أول الآية وآخرها يناسب ما ذكرناه ، أما أول الآية فهو أنه تعالى أمر الحكام بأداء الأمانات وبرعاية العدل ، وأما آخر الآية فهو أنه تعالى أمر بالرد إلى الكتاب والسنة فيما أشكل ، وهذا إنما يليق بالأمراء لا بأهل الإجماع .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغ في الترغيب في طاعة الأمراء ، فقال : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني " فهذا ما يمكن ذكره من السؤال على الاستدلال الذي ذكرناه .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أنه لا نزاع أن جماعة من الصحابة والتابعين حملوا قوله : ( وأولي الأمر منكم ) على [ ص: 117 ] العلماء ، فإذا قلنا : المراد منه جميع العلماء من أهل العقد والحل لم يكن هذا قولا خارجا عن أقوال الأمة ، بل كان هذا اختيارا لأحد أقوالهم وتصحيحا له بالحجة القاطعة ، فاندفع السؤال الأول : وأما سؤالهم الثاني فهو مدفوع ؛ لأن الوجوه التي ذكروها وجوه ضعيفة ، والذي ذكرناه برهان قاطع ، فكان قولنا أولى ، على أنا نعارض تلك الوجوه بوجوه أخرى أقوى منها :

                                                                                                                                                                                                                                            فأحدها : أن الأمة مجمعة على أن الأمراء والسلاطين إنما يجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب ، وذلك الدليل ليس إلا الكتاب والسنة ، فحينئذ لا يكون هذا قسما منفصلا عن طاعة الكتاب والسنة ، وعن طاعة الله وطاعة رسوله ، بل يكون داخلا فيه ، كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والولد للوالدين والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول ، أما إذا حملناه على الإجماع لم يكن هذا القسم داخلا تحتها ؛ لأنه ربما دل الإجماع على حكم بحيث لا يكون في الكتاب والسنة دلالة عليه ، فحينئذ أمكن جعل هذا القسم منفصلا عن القسمين الأولين ، فهذا أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن حمل الآية على طاعة الأمراء يقتضي إدخال الشرط في الآية ؛ لأن طاعة الأمراء إنما تجب إذا كانوا مع الحق ، فإذا حملناه على الإجماع لا يدخل الشرط في الآية ، فكان هذا أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن قوله من بعد : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ) مشعر بإجماع مقدم يخالف حكمه حكم هذا التنازع .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن طاعة الله وطاعة رسوله واجبة قطعا ، وعندنا أن طاعة أهل الإجماع واجبة قطعا ، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا ، بل الأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم ، وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن الضعيف ، فكان حمل الآية على الإجماع أولى ؛ لأنه أدخل الرسول وأولي الأمر في لفظ واحد وهو قوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر ) فكان حمل أولي الأمر الذي هو مقرون بالرسول على المعصوم أولى من حمله على الفاجر الفاسق .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوى العلماء ، والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء ، فكان حمل لفظ أولي الأمر عليهم أولى ، وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد ؛ لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم ، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق ، ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطا ، وظاهر قوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) يقتضي الإطلاق ، وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال ، وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة ، وهو قوله : ( وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معا ، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر ، وأولو الأمر جمع ، وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمام واحد ، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه قال : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الإمام ، فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية